الأنباط - أحمد الضرابعة
يمثل رئيس الوزراء ورجل الدولة الحقيقي الشهيد وصفي التل أيقونة وطنية بارزة للشعب الأردني، فهو مُعبّرٌ أساسي عن الهوية الوطنية الأردنية، التي كبح جماح محاولات القوى الإقليمية لتهميشها في عهده، كما أنه جدارٌ صلب حالَ دون شيوع الفوضى داخل الأردن، ورمز للاستقلال الاقتصادي والتنمية الشاملة وتعزيز القطاع العام. وفي كل عام يُحيي الأردنيون ذكرى استشهاده، بتسليط الضوء على سياسته النهضوية التي دشّن عبرها مسارات البناء والتعمير الوطني، إلى جانب استحضار مواقفه وقراراته الشجاعة والجريئة التي دفع حياته ثمناً لها، دون أي تردد.
ما يُميّز وصفي التل، مقارنة بمعظم رؤساء الوزراء الذين سبقوه أو أعقبوه، أنه امتلك رؤية شاملة للتعامل مع التحديات الداخلية والخارجية، وكان يملك طموحاً وطنياً، منسجماً مع التوجهات الشعبية. ولم تكن رؤيته مجرد حبر على ورق، وكلامٌ منمّقٌ لا يُسمع إلا في مساحات الإعلام أو المؤتمرات، بل سياسات فعلية ذات أثر ملموس، وراقب الأردنيون نجاحها، فآمنوا به والتفوا حول رؤيته. ورغم تواضعه وبساطته، إلا أن منصب رئيس الوزراء الذي شغله ثلاث مرات، كان يحظى باعتبار سياسي كبير، بخلاف ما هو عليه الأمر اليوم، حيث يُنظر إلى هذا المنصب بشكل مختلف، لأن الإنجازات في المنظور الشعبي، عامل حاسم في تحديد مكانة الحكومات ومدى قبولها واحترامها.
مع مرور نصف قرن على استشهاد وصفي التل، ليس من المعقول أن يقف الشعب الأردني عاجزاً عن استيلاد نخبة وطنية تنتسب إلى المدرسة السياسية "الوصفية" التي تضع الأردن مركزاً لها مع تقدير المنطلقات القومية المنشئة للدولة الأردنية الحديثة، خصوصاً أن هذا يضع رؤية وصفي التل في قالب جديد، ينسجم مع مشروع التحديث السياسي، ويُعيد تفسير التحديات المختلفة التي اهتم بها - وما زالت موجودة -، ضمن منظور واقعي، يُمكن من خلاله مزج إرثه الوطني مع متطلبات العصر الحديث، ولعل أحوج ما نحن إليه اليوم، في المئوية الثانية للأردن، أن نصنع أنموذجنا الوطني لهذا العصر، بدلاً من أن نكتفي بإحياء ذكريات الماضي
من كان يؤمن بوصفي التل، فإنه قد نال الشهادة، وهو أنموذج وطني لم يتكرر إلى اليوم، لكنه ترك خلفه إرثًا سياسياً وأخلاقياً عظيمًا، يرتقي إلى أن يكون مدرسة تمنح الجميع دروساً مجانية في القيادة والتصميم، والعزم والإرادة، والإصرار والتحدي، والشجاعة والعقلانية، وهو يستحق من الأردنيين ما هو أكثر من إحياءه بصفته ماضٍ نَحِنُّ إلى رجعته. فمن الواجب أن تُستلهم منه قيم الوطنية الصادقة، وتحمّل المسؤولية والاعتماد على الذات، والنزاهة والإخلاص والتفاني في العمل العام، وتجسيد إرثه في الحياة السياسية والاجتماعية.
إننا نُخطئ في كل مرة نُحوّل فيها رموزنا الوطنية الحقيقية إلى ذكرى تُثير الحزن والأسى فقط، دون أن نُحوّلهم إلى مصدر إلهام وطني، ودافع للتقدم والابتكار، وحافزٌ للعمل بذات القيم التي عاشوا من أجلها، وبعضهم قضى نحبه في سبيل الدفاع عنها
في ذكرى استشهاده الخمسين. رحم الله وصفي التل، والمجد والخلود لروحه.