الأنباط -
صراع النفوذ .. الدور الأمريكي بوقف النار وتأثيرات القوى الكبرى ب المنطقة
التحولات العربية والعزلة الفلسطينية وتأثير التطبيع على دعم القضية الفلسطينية
الكنيسة والمسجد.. مقارنة للقوى الدينية وتأثيراتها السياسية
الأنباط – خليل النظامي
تتجاوز الأزمة الحالية في غزة ولبنان حدود الاشتباكات العسكرية لتصبح تجسيدًا لصراع معقد بين القوى الإقليمية والدولية، حيث تظهر المواقف المتباينة للفاعلين الرئيسيين في المنطقة مثل إيران، الولايات المتحدة، إسرائيل، وحركات المقاومة كـ حزب الله وحماس وغيرها من الفصائل، ويتداخل الصراع مع المصالح السياسية والدينية لهذه الأطراف، ما يجعل مسألة وقف إطلاق النار أكثر من مجرد اتفاق لوقف القتال، بل جزءًا من صراع طويل الأمد على النفوذ والسيطرة في المنطقة.
إيران، التي تعد لاعبًا رئيسيًا في الشرق الأوسط، ترى في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ساحة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، وعلى مر السنوات كانت حليفًا أساسيًا لـ حركات المقاومة وتدعمها سياسيًا وعسكريًا، حتى ان هذا الدعم تجاوز لهذه الحركات البعد الديني ليعكس رغبة طهران في تحدي الهيمنة الغربية والإسرائيلية، وتعزيز موقعها كقوة مؤثرة في المنطقة، وفي إطار مساعيها لتعزيز نفوذها عبر تحالفاتها في لبنان وسوريا، ما يضعها في قلب المفاوضات المتعلقة بـ الصراع الفلسطيني.
من ناحية أخرى، تسعى إسرائيل للحفاظ على تفوقها العسكري وضمان أمنها في مواجهة تهديدات متزايدة من حركات المقاومة المدعومة من إيران وغيرها، وتمثل العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة ركيزة أساسية في هذا الصدد، حيث تقدم واشنطن دعمًا سياسيًا وعسكريًا لإسرائيل، بما يضمن لها التفوق العسكري في المنطقة.
ومع ذلك، تواجه إسرائيل تحديات أمنية متزايدة نتيجة لظهور حركات واحزاب المقاومة، الأمر الذي يجعل الحفاظ على استقرار المنطقة أمرًا صعبًا، من هنا، ترى إسرائيل في تحركات الولايات المتحدة للضغط من أجل وقف إطلاق النار فرصة للحفاظ على أمنها، مع ضمان استمرار مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
وفي السياق ذاته، تبقى الولايات المتحدة، القوة المهيمنة في المنطقة وتسعى لتحقيق توازن بين دعم إسرائيل وحماية مصالحها في مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد، وتولي واشنطن بنفس الوقت اهتمامًا متزايدًا لاحتواء إيران في لبنان وسوريا والعراق، وتسعى للحد من تأثير طهران على حركات واحزاب المقاومة، والضغط المستمر على الأطراف الدولية والإقليمية للتوصل إلى تهدئة في غزة ولبنان يشير إلى رغبة واشنطن في ضمان استقرار المنطقة، ولكن بشرط الحفاظ على التفوق الإسرائيلي ومنع تصعيد النفوذ الإيراني.
من جهة أخرى، شهدت السياسة العربية تحولًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث تراجعت بعض الدول العربية عن دعم القضية الفلسطينية، في وقت بدأ فيه التطبيع مع إسرائيل يأخذ منحى متسارعًا، هذا التراجع العربي أحدث عزلة إضافية للجانب الفلسطيني، خاصة حركات المقاومة، الأمر الذي أسهم في تقليص الدعم السياسي والدبلوماسي لهم.
ومن على الضفة الأخرى، تتمثل إحدى الفوارق السياسية الكبرى بين قوة الكنيسة في لبنان وقوة المسجد في غزة في شبكة التحالفات السياسية والدبلوماسية التي تحيط بكل منهما، والتي تبرز بشكل جلي في الصراعات الكبرى التي نشهدها في المنطقة، فبينما تستفيد الكنيسة اللبنانية من تحالفات استراتيجية وطويلة الأمد مع القوى الغربية المسيحية، تعاني القوى المسنودة في غزة من المسجد من عزلة سياسية خانقة وحصار مطبق، ما يؤثر على تأثيرها السياسي والدولي بشكل كبير.
ايضا، الكنيسة اللبنانية خاصة التي ترتبط بالتيارات المسيحية الكبرى في لبنان، لها تأثير كبير في السياسة الإقليمية والدولية بفضل تحالفاتها مع القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان، وهذه التحالفات ليست فقط دينية، بل مصالح استراتيجية تهدف إلى الحفاظ على التوازن الطائفي في لبنان وضمان استقرار المجتمع المسيحي في الشرق الأوسط، وهذا التأثير السياسي ظهر بوضوح في عدة محطات، خاصة في حرب يوليو 2006، إذ لعبت الكنيسة دورًا مهمًا في تحفيز القوى الغربية للتدخل لوقف العدوان الإسرائيلي، ولم يكن التدخل من منطلق أخلاقي بحت، بل كان مدفوعًا بالمصالح المشتركة بين الغرب وإسرائيل، وبين الغرب والمكون المسيحي اللبناني، حيث كان الحفاظ على التوازن الطائفي أولوية غربية ما دفع باتجاه إنهاء الحرب بشكل أسرع، فظهرت الكنيسة كأداة فاعلة في هذا المسار.
على عكس الكنيسة اللبنانية، يعاني المسجد في غزة من عزلة سياسية شديدة على الساحة الدولية، وعلى الرغم من كونه رمزًا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن ضعف التحالفات السياسية والدبلوماسية جعله يعاني من صعوبة في تحقيق أي تأثير ملموس على المستوى الدولي، في المقابل من ذلك يتم تصوير حركات المقاومة المرتبطة بالمسجد في وسائل الإعلام الغربية على أنها "إرهابية"، ما يقلل من الدعم الدولي للقضية الفلسطينية.
علاوة على ان الحصار السياسي الذي يواجهه المسجد في غزة يزداد تعقيدًا بسبب مواقف العديد من الأنظمة العربية التي كانت في الماضي تدعم القضية الفلسطينية بشكل حازم، إذ أن العديد من هذه الأنظمة قد بدأت بالفعل في السير في اتجاه التطبيع مع إسرائيل، ما يعكس تحولًا كبيرًا في المواقف الإقليمية، ويزيد من عزلة غزة.
ويكمن الفرق الجوهري بين قوة الكنيسة في لبنان وقوة المسجد في غزة في شبكة التحالفات السياسية والدبلوماسية التي تحيط بكل منهما، فـ الكنيسة اللبنانية تستفيد من دعم مباشر من الدول الغربية، ما يمنحها تأثيرًا كبيرًا على الساحة السياسية الدولية، بالمقابل يفتقر المسجد في غزة إلى هذه التحالفات الفعالة، ويواجه تحديات متزايدة في الحفاظ على الدعم الدولي والإقليمي.
وفي الواقع، إن الفرق بين القوة السياسية للكنيسة اللبنانية والمسجد في غزة يعكس تباينًا حادًا في كيفية تأثير التحالفات الدولية والمحلية على سير الأحداث في المنطقة، بينما تلعب الكنيسة دورًا بارزًا في التأثير على مسار الصراعات الكبرى بفضل تحالفاتها، يبقى المسجد في غزة معتمدًا على صمود الشعب الفلسطيني وحركة المقاومة التي تمثلها، دون أن يكون له نفس الوزن السياسي والدبلوماسي الذي تتمتع به الكنيسة.
من جانب آخر، لا يمكن تجاهل أن هذه الفوارق ليست فقط سياسية، بل دينية أيضًا، فـ بالنسبة للكنيسة اللبنانية فهي تمثل جزءًا أساسيًا من هوية لبنان المسيحية، وهي قادرة على استقطاب الدعم الدولي والمحلي بما يتماشى مع مصالح الدول الكبرى في الشرق الأوسط، في وقت يظل مسجد غزة مرتبطًا برمزية إسلامية للمقاومة، لكنه يفتقر إلى نفس المستوى من الدعم العربي والدولي والإقليمي، وهذا يجعل من المسجد في غزة قوة محدودة التأثير على صعيد السياسات الكبرى في المنطقة.
ان مسألة وقف إطلاق النار في غزة ولبنان هي أكثر من مجرد محاولة لوقف القتال؛ إنها جزء من صراع معقد بين القوى الكبرى لتحقيق مصالحها في الشرق الأوسط، فـ الولايات المتحدة من خلال دعمها لإسرائيل، تسعى للحفاظ على استقرار حليفها في المنطقة، في حين أن إيران تواصل تعزيز نفوذها من خلال دعم حركات المقاومة، كما أن الصراع مع إسرائيل يتداخل مع المصالح الاستراتيجية لكلا الطرفين، ما يجعل الهدنة أو وقف إطلاق النار خطوة في صراع طويل الأمد على النفوذ والهيمنة في المنطقة، حيث تتشابك المصالح السياسية والاقتصادية والدينية في سياق يتعقد يوماً بعد يوم.