الأنباط -
ملح الرجال وضغط الحياة
سعيد الصالحي
قررت منذ بداية الأسبوع أن أجرب فضيلة الصدق، وأخذت عهدا على نفسي ألا أكذب لمدة أسبوع، وألا أستخدام ألوان الكذب المتعارف عليها لتبرير زلاتي، وأن أحاول أن اكون صادقا مهما كلفني الأمر، ارتديت ملابسي وتوجهت نحو المرآة كعادتي لأسرح شعري، فنظرت إلى المرآة وقلت لانعكاس صورتي: كم انت وسيم، فابتسمت وقررت أن أضم نفسي لقائمة الأشخاص الذين ينبغي ألا أكذب عليهم.
بدأت يوم العمل الرمضاني كالمعتاد متنقلا بين هاتف لا أرد عليه وآخر لا يرد علي، وبعد برهة من الوقت استقبلت اول مكالمة، وكان المتصل يعاتبني لأني لم أرد على رسالة الواتسب مع أن الرسالة ظهر إلى جوارها اشارة الصحان الأزرقان، فبدأت أخترع الحجج وأتفنن في تأليف الأعذار، وفي خضم محاولة التبرير تذكرت بأنني عاهدت نفسي بأن لا أكذب لمدة أسبوع، فأوقفت سيل العتاب وبدأت احدثه بكل صدق عن اسباب عدم ردي على برقيته الالكترونية فلم يعجبه وأنهى المحادثة بسرعة، وكأن الكذب الذي كنت أخترعه كان أخف وطأة على أذنيه وقلبه من حديثي الصادق.
وقبيل انتهاء الدوام بقليل استشارني أحد الزملاء في أمر يزعجه، فقدمت له المشورة بكل صدق ومحبة وبطريقة مختصرة، فلم تعجبه النصيحة على غير عادته، وعندما سألته عن السبب أخبرني أن الطريقة التي قدمتها بها لم تعجبه، فقد كنت مختصرا ومباشرا، ولم اقدمها له كعادتي في الحديث، مما جعله يعتقد أنني أقدم له مشورة بدون نفس.
وفي طريق العودة حاولت ألا أكذب على إشارات المرور، وألا أنتزع أولوية لا استحقها على الطريق، اشتريت اغراضي اليومية، وقد اجتزت النهار الاول دون كذب، وفي الليل أمسكت أحد الكتب التي كنت أطالعها، قرأت عدة صفحات فمللت من التطويل والتسويف في وصف الفكرة، فأغلقت الكتاب وبدأت أتابع أحد مواقع التواصل الاجتماعي، فشعرت من خلال منشورات الناس أنني محاط بالحكماء والمثاليين الذين لا أجدهم إلا على شكل سراب الكتروني، ولا مكان لهم في عالمنا الحقيقي وتذكرت أن "الكذب ملح الرجال"، وهو مثل يراد به تبرير الكذبة البيضاء التي نضطر الى استخدامها لدفع ضرر او الستر على الاخرين وحمايتهم، ولكن كعادتنا في التعميم أصبحنا نستخدم هذا المثل في كل مناسبة وكأنه الأصل في الحديث والتواصل والتراسل، ففي هذا الزمان لم يعد الكذب ملحا، ولم يعد الصدق وجبة تشبع النفس، فملح الرجال لم يحرر فلسطين ولم يحملنا نحو الفضاء ولم يجعل نصادف الرفاهية في أي مكان، والأنكى من ذلك أنه لا يذوب وتبقى آثاره لفترة طويلة وخصوصا عندما يتم استخدامه من اشباه الرجال، فبعد إذنكم قررت ان أجرب الأسبوع القادم فضيلة الصمت والسكوت وسأخبركم بعد تجربتي إن كان ما زال الصمت من ذهب، وهذا لا يعني أني سأتوقف عن تجربة فضيلة الصدق ولكنني سأقنن استخدام ملح الرجال لمحاولة ضبط ضغط الحياة والحفاظ على معدلاته ضمن الحدود التي تسمح لي بممارسة هوايتي في عد الأيام.