الأنباط -
بقلم: عيسى قراقع
الأم الفلسطينية المرحومة رفيقة والدة الأسير ياسر المشعطي سكان قرية دير الحطب قضاء نابلس، ترفض الدخول إلى الأماكن المغلقة، ترفض الاندماج في منظومة الاحتلال والخضوع لها، وظلت على مدار 18 عاماً قضاها ياسر في السجون ترفض الدخول إلى قاعة زيارات الأسرى، كانت تعاني من فوبيا الأماكن المغلقة، لكنها كانت تصر على الذهاب إلى الزيارة، تصحو مبكراً، وتركب حافلات الصليب الأحمر، وعندما تصل السجن تبقى خارج القاعة دون أن يعلم ولدها الأسير أنها تنتظر، وتبقى كذلك حتى تنتهي الزيارة.
اعتقل ياسر عام 2000، وكان عريساً جديداً، وأفرج عنه عام 2019، رزق بابنه عبيدة الذي ولد بعد عدة شهور من اعتقاله، فقد والديه وهو في السجن، وكانت زوجته تخبره أن والدته كبيرة في السن ولا تستطيع الزيارة، لا تريد أن يعلم أن والدته مريضة وتقبع خارج السجن في كل زيارة لأنها لا تستيطع الدخول إلى أماكن مغلقة ومحشورة، وكانت تبلغ أم ياسر بكل تفاصيل الزيارة، عن أحواله وصحته وبدورها تقوم أم ياسر بنقل سلامات وتحيات ياسر إلى إخوته وأصدقائه وأهالي القرية وهم لا يعلمون أنها لم تقم بأي زيارة.
ما هذه الأم العظيمة التي تقطع المسافات على مدار كل هذه السنين الطوال ولا تتمكن من رؤية ابنها الأسير؟ إنها فوبيا القهر، الإحساس بالاختناق، الخوف من الأبواب الحديدة الدوارة، الهلع والقشعريرة وعدم القدرة على استيعاب رؤية ولدها يرزح خلف القضبان.
في الثامن من آذار يوم المرأة العالمي نتذكر الحاجة المرحومة رفيقة أم ياسر، الأمهات العظيمات الصابرات، أمهات المنكوبين والمشردين، الفدائيات والمبدعات والأسيرات والمرابطات، الصامدات روحاً وجسداً على أرض فلسطين، المنذورات من أجل الحياة والعطاء.
أم ياسر لا تدخل إلى غرفة زيارة الأسرى، تقف أمام السجن لساعات طويلة حتى تنتهي الزيارة، ترسل رسائلها، تحدث ابنها وكأنه أمامها، تعانقه تطمئنه على صحتها التي تدهورت وساءت، تبتسم له وتغمره بالأدعية المقدسة، تعمده بأفكارها وخيالها وحنينها، تقول له: حطّموا سياسة المجرم بن غفير وتصدوا بكل بسالة لسياسته الفاشية والتعسفية، يكفي أن قلوب الأمهات معكم، هي القوة العظمى والمحرك الإنساني الأكبر لصمودنا وبقائنا والتمرد على كل وسائل البطش والتشديدات الظالمة.
الأسرى في السجون سمعوا أم ياسر تقول: سنصوم معكم، يعبئ أرواحنا بالملح والماء والصبر والصلوات، نحن هنا في الساحات والشوارع وخيام الاعتصام، كل نساء فلسطين، الأحياء منا والأموات، ننتفض معكم فوق الأرض وتحت الأرض، لا شيء يقف أمام الإرادة، لا شيء يقف أمام الأم الفلسطينية عندما يأتي المخاض، هناك ما يجمع الميلاد والحرية في المعارك.
أنا ظلك الحر الذي يمشي في قريتك دير الحطب، أنا الشاهد على حصارك وحصاري، فخذ كل الحب والنار وأشعلني بنارك، فالحرية لا تموت في السجن يا بني، لهذا أنا على مدار الأبد أراقب فجر طلوعك ولا زلت في انتظارك.
سأنتظر خارج السجن، وأنا على موعد معه وسوف يخرج ويلقاني هنا في الساحة، ولدته حراً وسألقاه حراً، لم أخلق لأدخل في آلة السيطرة والمراقبة، قلبي يفيض ويحترق، قلبي معه خارج هذا النظام الاستعماري، مشاعر الأم أكبر من الأمر الواقع، لا تكبلها القيود المحكمة.
أم ياسر لا تستوعب حتى 45 دقيقة مدة الزيارة، لا تريد أن ترى باباً يفتح وباباً يغلق، قيود وسجانون وأمراض وإجراءات مشددة، لا تريد أن ترى ابنها في هذا السجن، السجن هو وباء الشعوب المظلومة، والشعب الفلسطيني كله مصاب برهاب الأماكن المغلقة، الجدران والحواجز والمتاريس والمستوطنات والأسلاك الشائكة، رهاب الجغرافيا والرصاصات السريعة الغادرة على يد جنود تلقوا تعليمات بإطلاق الذخيرة الحية على أي فلسطيني يشتبه أنه يتحرك أو يتلفت أو يغني ليستوعب أسئلة المكان المدهشة.
الأسير كريم يونس الذي قضى 40 عاماً يحاول أن يشفى من جنون السجن المغلقة، يلاحقه هذا السجن في روحه ونظراته وتقاسيم وجهه وكلامه المخنوق، يذهب إلى البحر بعد الإفراج عنه، إلى حيفا وعكا، إلى الأنهار والشلالات، يقدم نفسه للطبيعة بأعشابها وأشجارها البرية، يجلس على صخرة، يتنفس، يداعب نبتة برية، ينظر إلى طير في سماء مفتوحة، خذيني أيتها الطبيعة، انفخي في كياني لأتحرر من الجدران التي لا زالت تكبلني، أسمعيني صوت أمي وهي تنادي علي وتلفحني بأنفاس الذاكرة.
الشعب الفلسطيني مصاب برهاب الأماكن المغلقة وقد أطلقت عليه مؤسسات حقوق الإنسان جريمة الفصل العنصري، تطويق الناس وحشرهم في معازل وتجمعات مكتظة، لا أرض ولا فضاء، كل شيء يمر عبر هذه البوابات الحديدية، كل الناس سجناء، لا ماء ولا هواء، لا سيادة على أي شيء، قرية حوارة تحترق، وقطعان المستوطنين يحتفلون أمام النيران المشتعلة، يبتهجون ويرقصون، لكنهم هؤولاء الهمجيون لم يروا الغيم أحمر يصعد فوق نخيل أريحا، ولم يشاهدوا مدينتي نابلس وجنين تقاتل من أجلك يا بني، تعبئ ذخيرتها من لحمك وغبارك، مصيرك مصيري، تقول أم ياسر، فلنتوحد بأحلامنا كأنك عائد من غيابك.
أم ياسر ترفض الدخول إلى الأماكن المغلقة، لكنها تقف أمام السجن، تراقب ابنها في النوم واليقظة، تنادي على ولدها وكل الأسرى: هناك من يريد أن ينقض على الرمز فيكم، مكانتكم وكرامتكم وحقوقكم العادلة، هناك من يتربص ليقتلكم، التوراتيون المتعصبون يشرعون قانون إعدام الأسرى، هناك من يريد أن يجردكم من سلاحكم وكرامتكم وأرضكم وتاريخكم وشرفكم، انهض يا بني، الصهيونية الدينية العسكرتارية تمارس العنف الممنهج بحق الفلسطينيين، الكهانية وصلت للسجون، لم تنته الزيارة يا بني، لم يتحرك باص الصليب الأحمر ولا الأمم المتحدة، سأبقى هنا في الخارج ولن أدخل الجدار، سأنتظر سنة وراء سنة حتى ينهدم الجدار وأراك.