مقالات مختارة

ربى زيدان تكتب : عقل القرد .. لعنة العصر الرقمي الجديد

{clean_title}
الأنباط -
يصف أليكس بانج ، الأكاديمي الياباني المعروف، في كتابه الأخير عن العالم الرقمي حديقة قرود في اليابان، تعجّ بأعضاء قبائل من فصيلة تشتهر بذكائها المتفوق وعاداتها الاجتماعية المميزة. كما لديهم أيضا فضول كبير يشبه ذاك البشرّي والذي يكاد يصل للمكر في أحيان كثيرة.
وهم رغم استشرافهم لإحدى أجمل الإطلالات في العالم (جبل أرشياما في كيوتو القديمة) لا يتوقفون لوهلة للاستمتاع بما حولهم، بل يستمرون في الثرثرة والمناكفات الفارغة رغم تطور ذكاءهم المذهل ومهاراتهم العقلية واليدوية المتقدمة.
إن قرود "المكاك" وهذا اسمهم العلمي، يمثلون ما اصطلح على تسميته في العلوم الاتصالية والإنسانية بـ " عقل القرد"، أي ذاك العقل المنفلت والمتوتّر، الذي لا يهدأ أبدا، ويواصل القفز في كل الاتجاهات.
النشاط المستمر هذا لعقل القردة يعكس اضطرابا عميقا، فهذه الكائنات لا تستطيع الجلوس بهدوء دون فعل شيء، لا يتوقف عقلها عن العمل أبدا. هذا الدفق المستمر من الإشارات العصبية دفع الكاتب لتشبيهها بعقل إنسان العالم الجديد، ذاك الذي لا يتوقف عقله عن العمل ولا يهدأ ذهنه الذي ينشغل بسهولة، بوميض كل رسالة نصية، أو بريد صوتي، أو تنبيه الكتروني.
والحقيقة أن مقاربة بانج بين صخب قرود المكاك وفوضى عقول البشر الحاليين وجدت صداها لدّي. فقد اختبرت وأختبر باستمرار ما يعنيه الأمر أن تحاول إنهاء مهمة تتطلب قدرا عاليا من التركيز وتفشل مرات عدة بسبب المقاطعات الالكترونية والمكانية والبيئية في عالم باتت أجهزته كثيرة وطنين تنبيهاته لا يتوقف.
"يمكن للحياة الرقمية أن تكون رائعة"، أحدث نفسي بين الفينة والفينة، قبل أن أجد نفسي مرة أخرى في غمرة الإحباط من عدم إنجاز ما توقعت أن أتممه قبل نهاية اليوم، أو بعد أن تشتكي طفلتي مجددا أني لم أعط التركيز الذي وعدت للفيلم الكرتوني الذي اختارت أن تشاهده برفقتي بعد يوم عمل طويل.
نحن مدمنون على التشتتّ.
بات الأمر مخيفا، بعد أن أصيحنا نفعل ذلك بشكل تلقائي ودون وعي كاف بدرجة إدماننا تلك. نمدّ أيدينا في الصباح بحثا عن هواتفنا بأعين نصف مغمضة، بينما نحاول قراءة رسائلنا الالكترونية، نحن لسنا مستيقظين بشكل كامل، ليس بعد، ورغم ذلك نحاول التقاط ما فاتنا من تنبيهات على وسائل التواصل الاجتماعي، أتفقد الأخبار، ألعن في سرّي الفقر والظلم والاحتلال وأنا لم أفتح عيني بالكامل بعد، بنما تنهمر صور القتل والذبح والتشريد والفقد في سيل صباحي يعكرّ في الحال مزاجي المتعب أصلا.
حسنا، بضع دقائق متبقية للراحة، أقنع عقلي أن يعود لسباته لكن أصابعي تواصل تصفح فيديوهات قصيرة عن ترتيب الخزائن وعن تنسيق الحدائق واختيار اللون المناسب لأقمشة المنزل، كيف وصلت إلى هنا؟ وما شأني أنا بالأمر؟ خصوصا أن ما يعنيني في قائمة ما أود تعديله هذه الأيام هو جدول التزاماتي الاجتماعية ومواعيد دروس الرسم والرياضة لكائنين أشرف على حياتهما الرقمية أيضاّ! مهمة تتطلب انتباها متواصلا!
قد يبدو الأمر منطقيا للجيل الرقمي الجديد، والذي وفقا للآخر الدراسات الحديثة يصل معدل ما يرسلونه من رسائل الكترونية يومية 110، ومعدل المرات التي يتفقدون فيها هواتفهم النقالة أكثر من 34 مرة في اليوم (أكاد أجزم أنها أكثر بكثير)، لكن الأمر بالنسبة لي ولكثيرين ممن عرفوا الحياة قبل شاشات الهواتف الذكية مربك ومستنزف.
المقلق في الأمر هو صعوبة الحفاظ على التركيز بينما يتسابق كل ما حولنا لسرقة انتباهنا، الانتباه هو سلعة العصر الجديد وبضاعته الأغلى ثمنا. يوجهّ الجميع، أفرادا وشركات وتطبيقات اجتماعية تيارات ثابتة من المشتتات تجاهنا، طنين التنبيهات المستمرة بات يؤثر على ذاكرتنا القصيرة والطويلة الأمد، وعلى مستويات التحصيل الأكاديمي والدراسة وتعلم المهارات التي تحتاج لتركيز، ألمس هذا بصورة يومية سواء في العمل أو في حياتي الخاصة.
إدمان التشتت.
لعنة العصر الرقمي الحديث التي جعلت من ارتباطنا بالتقنيات الحديثة عضويا ولا فكاك منه. إن تفاعلنا اليومي المستمر مع التكنولوجيا بأشكالها المتعددة يغيّر ولا يزال من طريقة عمل أجسادنا وعقولنا، يعيد تشكيل مخطط الجسد ويصل لدرجة كبيرة من التعقيد والتشابك.
لا شك أن ارتباطنا الوثيق بالتقنيات الحديثة ساعد في توسيع مداركنا وساهم في نهضة معرفية غير مسبوقة، لكنيّ أجد وعلى عدة مستويات، أن هذا الارتباط العضوي والالتحام غير المسبوق بالعوالم الافتراضية، بات قيدا وعبئا أكثر منه امتداد إيجابي، وبتّ اليوم أكثر من أي وقت آخر أعتقد أن الحدود بين الواقع الافتراضي وحياتنا كما عهدناها ستختفي في المستقبل القريب.



تابعو الأنباط على google news
 
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الأنباط © 2010 - 2021
لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر ( الأنباط )