الأنباط -
من فترة ليست بعيدة، اعتدت أن اصحو على برنامج صباحي في تلفزيون فلسطين بغية مشاهدة موضوعين (فايز عباس) اعتقد لم اخطئ بالاسم من فلسطين (جوا) يستعرض بمهنية رفيعة صحافة يهود.. وهذا الايجاز عندي بعد ان اتصفح الجيروسالم بوست لاحقا يكفيني معرفة يومية لتوجهات ذلك اليوم من الرذائل اليهودية (تطبيع وتصفية وانتهاكات ومخططات).
والموضوع الثاني برنامج (اسمه لفة بلد) مدهش اسعراضي لعبقرية المكان وكان اخر مرة قد زار نابلس بكل تفاصيلها مما ايقظ في تعلقا بالمكان ورحت افكر واجمع لمقالة نابلسية او مقامة نابلسية ان شئت، لكن داهمتنا موجة الجنون في الانقضاض على غزة فأجلت الموضوع،
وعند هذا الصبح ايقظتني الاعلامية الفلسطينية ذي الصوت البريء اسمها (الاء) من ذلك البرنامج الفلسطيني، كانت صلبة وحزينة وتنقل اثار الغزوة السافرة اليهودية على كل احياء البلدة القديمة في نابلس ودم زكي معطر يشخب في الطرقات يحاول ان (يفرك بصلة في عين الصلف اليهودي مهما كان الثمن باهظا)
صحوت على اجراس نابلس على دم زكي خالد (بورك الدم يا نابلس) !!!
لم افعل شيئا سوى انني رحت الى نابلس بطفولتي اتلوى في حواشيها ابحث عن حزن لفراقها وابحلق في عيونها، واشمشم حوارييها
فقلت: ظفرت بامتياز ان اخي الاكبر (الفرق بيننا ثلاثين عاما) حمزة، قد كان اول من في بلدتنا تزوج من سيدة نابلسية من عائلة كريمة امها من بيت عناب وابوها خياط عربي من بيت عاشور، وشغل وظيفة محاسب مهم في شركة التميمي وهي من اهم شركات بلاد الشام (مال قبان، محروقات، مواد غذائية، نقل، باصات).. وارتحل عن حياة الريف. وسكن في الجبل الشمالي مجاورا لاصهاره..
بدأ ذلك المشوار في حياة ذلك الريفي الجسور وتحول إلى إبن مدينة في كل شيء إلا لهجته.. حافظ على لكنة ريفية او أن نابلس لم تمنحه شرف التحدث بلهجتها المميزة كان ذلك كله قد ابتدأ في حياة اسرتنا (اضافة الضلع النابلسي منذ عام ١٩٦٠) وكان هذا امتياز لي عاد علي بفوائد نفيسة فلقد عرفت (الدوش) والكعك، والعناب والعنبر، ومبكرا عرفت معنى الحياة حين يكون سلسا ان تلعب الطفلة مع الطفل وشممت روائح البخور ورأيت لحى السمرا الطويلة…
كنت اقضي الصيف كله في ضيافة اسرة اخي والبي كل ما يطلب مني من واجبات وانا طفل صغير في اصياف الستينيات كلها حتى بلغنا قاع (الاحتلال) عند المنتصف وسنة اضافية، كانت نابلس مدينتي بالمعنى الحرفي للكلمة..
رحلة الصبح الصيفية تبدأ بورقة تكتبها السيدة (ام محمود) زوجة اخي على صورة نقاط تضم قائمة المشتريات لذلك اليوم…
تسلمني الفلوس، وتعبطني سلة ليست بالهينة، وانطلق من الجبل الشمالي اما وحدي واما ان يصطحبني بلال اخوها في مثل عمري ومعه سلته ايضا، لكن كان لارتفاع راتب الاخ الكبير في تلك الايام ما يمنح وفرة في الحياة ومرونة في الشراء…
كنت تشتم روائح البدخ من تشكيلة ذلك (السبت او السلة) التي اتكفل بتعبئتها من السوق واعود بباص الجبل الذي يقوده الحاج بكر البشتاوي صاحب المزاج الرائق مع الصبايا كان ختيارا نابلسيا جميلا رحمه الله وصاحب نكتة وانا لي امتياز ان الشركة كأنها شركة ابونا
(شركة التميمي) لا ادفع أجرة وهذا امتياز يحسسك بقيمة استثنائية (ابن امن هاد اللي ما بيدفع اجرة)؟!
ذاك السؤال النابلسي المريب من أحد الركاب. كان يحسسني دوما بالتميز والالق..
عند النزول كنا بلال وانا نفضل ان نسير مشيا على الاقدام بالسلال الفارغة. هبوطا باتجاه درجات المستشفى الوطني، وبمحاذاة مطعم ومنتزه الجندول نمر من باب عدة فلل تشبه القصور واحدتها الاهم كانت لال النابلسي، لها سور قصير وباب خشبي مميز ودرج يكشف عن حديقة لم ار مثلها في الكون اناقة وجمالا اظن ان ذلك المنزل كان يعود لحفيدات او كريمات الحاج نمر النابلسي رحمه الله
وبعد نزول درجات المستشفى وتتصفح الوجوه القادمة من عصيرة وجبع وغيرهما، ترقب بعين مواربة ذلك السلوك الريفي الغامض الذي ينظر بحذر في المدينة الزهرية لكل ما من حوله ثمة قلق في عيون الريف ريف نابلس اعني حين يزور تلك المدينة فهاتيك المدينة الابدية التي كانت قبل موسى النبي وظلت مبتغى بعض العقلاء من اتباعه ليلوذوا بها سكنا امنا (طائفة السمرا) كانت تلك المدينة لا تقبل ابدا المساواة بين ابن المدينة والقادمين اليها من ريف ولاجئين !!!
فالكنافة عنوان الرفاه في نابلس (اباظة) لاهل المدينة عند المساء في عمارة العنبتاوي، و(العكر) للفلاحين القادمين الى نابلس من الجهات الاربعة.
لحظة هبوط ابناء القرى الشمالية على باب المستشفى الوطني حيث ينزلون كنت ادرك معنى الفوارق بمعنى (التحكم بالمكان) نسيت ان اذكر، دوما كنت اتحاشى النظر الى الباب الخلفي الاسود في المستشفى الوطني، بعد ان رأيت مرة او مرتين جثث الموتى تغادر من هناك الى هناك حيث الدفن دوما كنت لا احب التحديق في الموت فله (الموت) قدرة خارقة على ان يجوسك برعب السكون وظلت عادة لازمتني تجنب النظر للموتى..
اذرع دوار الحسين حيث البهاء والدلال الباذخ عمارة العنبتاوي، مطعم ابو زهير، وباصات الشخشير، وندلف من هناك باكتظاظ بشري محمود الى مدخل سوق البصل فتصحو فجأة على روائح مسمكة العقاد!
من أي بحر كان العقاد يلتقط سمكه في تلك المدينة البعيدة عن اي ساحل؟!
ولقد تفنن العقاد في عرض اسماكه والثلج يطمرها عن اخرها وولد وظيفته الرشرشة الدائمة، ثم بائع الخضروات اعتقد انه كان من بيت كلبونة بعدها ندرك اللحام اخطر محطة في الرحلة وتحتاج الى يقظة من بيت ابو زنط كان لحاما طاغيا في سمعته والاصطفاف عالدور لكن امتيازا كنا نظفر به اول وصولنا، بحيث يطلب الينا ان دخل جوا، ونجلس على كراسي قش ذلك ان مصاهرة تربط بين ابو زنط وآل الباشا
والزوجة من آل الباشا تكون بنت خالة زوجة اخي…
نأخذ الكمية المطلوبة مفرومة رأس عصفور بعظمها وشوية عظم للشوربة وقطعة (لية) للمحاشي ونتجه من هناك الى محل الالبان على يسار (الخان) ..
كانت نابلس من اخترعت في ظني (بقلولة اللبن) والبقلولة في صفين عاليمين لبنها على صفار يسمى (لبن طبيخي) والثانية على بياض (للغموس) نأخذ حاجتنا وندلف الى الفرن المجاور على انعطافة الخان باتجاه درج اليهود نشتري (الكماج) بنوعيه الرقيق والسميك، ونتناول الخضرة الزكية من بقالة تملوها الرطوبة من شدة الماء الذي يرش على الخضرة ملفوف او كوسا للحشي وباذنجان بتيري وضمة بقدونس وضمة كزبرة من الثوابت ونعود ادراجنا نقف قبالة مطعم العلمين لـ ابو زهير بانتظار باص بكر البشتاوي..
ندحش اغراضنا امامنا، ونمضي باتجاه الجبل الشمالي من الجهة الشرقية، وننزل على باب بقالة (التيتي) تلك البقالة الساحرة في روعة توضيب محتوياتها البخور والنظافة تشعشع منها ورائحة الزبيب وقمر الدين والعصائر!!
نشتري من دكان التيتي الصنوبر والسماق وفحم الاراجيل للتمباك العجمي وعلبة تمباك عجمي والسكر والارز وكل متطلبات البقالة ونمشي على جسر التيتي باتحاه عمارة ابو سمير سبع العيش من الدرج (الفوقاني) لانه اسهل واقصر من الدرج التحتاني جهة المستشفى الوطني قبالة منزل آل الريشة والشخشير هكذا كانت رحلتي لنابلس الصيفية نابلس مدينة الافلام السينيمائية في (ريفولي) و(العاصي) وكسدرات الصبايا الفاتنات عند العصر يرتدين الميني جيب، باتجاه منتزه البلدية كانت نابلس عرسا عربيا لا تستطيع في اماسي الصيف ان تقلده اية مدينة في شرق المتوسط الذرة المشوية والعنبر وتطيير الطائرات الورقية كانت نابلس كما احببت ان اتخيل هي من ابدعت فكرة الطائرات الورقية…
نابلس، ذبلت واصطبغت فجأة بلون الدم حين قرر جمال عبد الناصر ان يلقي باليهود في البحر وناشد إعلامه سمك المتوسط ان (يتجوع) ليلتهم اجساد عذارى بنات العم، وعلى حين فجأة قومية امتلأت ادراج نابلس وشوارعها بدماء شبابها في حرب القاء اليهود في البحر..
نابلس، اختطفت بخطيئة، بمكيدة، بغلطة، بحماس لا لزوم له… المهم انها مضت الى الاحتلال وكانت خصلة من شعرات صالح الشويعر البطل الاردني الذي داس ببسطاره كرامة اليهود لولا ان سلاح الجو هو من حسم المعركة طارت خصلة من شعر صالح من تحت بيريه وشعار الجيش العربي لتحط وصية وحدة بين نابلس والاردن وحدة ابدية عمدها دم صالح ورفاقه..
اليوم، صحوت على صور لنابلس في حي الحبلة والياسمينة والشيخ مسلم والقريون كلها تحت الدك وتحت الدعك وتحت الدم الذي يلفظ اللا النابلسية في وجه الاحتلال هل بكيت ؟!
اصدقكم القول، انني بكيت على حالنا وعلى حال نابلس بذات الحزن.. بكيت لانني رأيت نابلس بين مرحلتين مرحلة نابلس الهاشمية الهانئة
نابلس الاردنية التي فيها كل رخاء وعشت تلك الطفولة والفتوة ونابلس التي تذبح ذبحا بدم بارد في كل لحظة يقرر فيها حثالة البشر الانقضاض عليها ربما من دون سبب سوى هاجس القلق والرعب من (اختلاسهم لكل فلسطين) في لحظة قرر فيها التاريخ ان يخالف الطبائع كلها !!!
ويدير ظهره لحقائقه ويمنح هولاء المجانين المستوطنين زورا وظلما ارواحنا …
لماذا بكيت على حالنا …؟!
فلننس الحكومات ولا نريد ان نحكي عن برامجها ونخالف ونوافق تلك سنة الحياة لكن الذي يبكي (اختلال البوصلة لدى الكثيرين منا) في معنى المواطنة والوطنية والوطن!!
تشرفت بسهرة عند الخال الطيب المضياف الختيار الذي اكمل كل شروط الوطنية الحقيقية في مزرعته بسوف عبد الله العتوم المحترم
كنا فوق الثلاثين او الاربعين على مأدبة عشاء، اكرمنا بها زيد العتوم (المالي، وليس النيابي) من خارج آل العتوم كنا زيد الحموري، صبري ربيحات، حازم قشوع، وانا وباقي الحضور ما عدا الدكتور هشام الصمادي كلهم من عشيرة العتوم….
لو لم تكن نابلس قد استبيحت لكتبت مقالة عن تعاليل الشمال …
من الذ وامتع السهرات التي قضيناها في معية الدكتور عاطف عضيبات ومررنا على ذكريات ومرح كان الخبير الايراني والمحافظ وضابط المخابرات ورجل الاعمال والمسؤول في الطاقة النووية والشباب لكن حين صار الحديث في السياسة تشنج الحوار وتخندقنا كل من وراء زاوية رؤياه …
لعل الذي قاله رضوان العتوم محافظ اربد كمداخلة عاتبة وحزينة وتحذيرية من ان الوضع الاقتصادي هو مشكلتنا ولا يجوز ان نسيس المشكلة كانت حسرة ذلك الاداري في الداخلية وقلقه هو من جعلني ابكي حسرة وقلقا هذا النهار
تذكرت نابلس وكيف انزلقت الى متاهة من الدم والاحتلال
كيف كانت فرجة .. واضحت مدينة نسال الله سبحانه لها الفرج
امس تعشيت في مطعم هاشم من زمان بعيد ما فعلناها بدعوة من الغالي زيد الحموري ومشينا باتجاه كشك ابو علي حيث ضيفنا الوريث للاسم وللكشك كنافة ونحن نمشي بين البشر كان زيد يناشد ربه ان يحمي عمان والاردن وانا اردد امين لغات هندية انجليزية المانية فرنسية ملابس بدوية وعربية واهل حضر فوق بعض الناس رغم ضيق الحال تنشد الحياة لا تخطؤا الحساب وليبحث الجميع عن صيغة (تشيل الوطن) في هذه المرحلة الصعبة معارضين ومؤمنين عقلاء ومنافقين مجانين وكتاب غاضبين مقاولين وشتامين مسلمين ومسيحيين
تعالوا الى كلمة سواء فالوطن الاجمل هو القادر على خلق فرصة للنجاة الامن هو من يأتي بالرغيف وليس الرغيف من يأتي بالأمن
حمى الله الاردن كله.. ونترحم بملء الدمع على شهداء نابلس ونتحسر على ياسمينها الذي ديس ببساطير حثالة الدنيا..