صالح سليم الحموري
خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية، ورغم إصابتي بدور إنفلونزا، وجدت متعة خاصة في قراءة أحدث مؤلفات الكاتب البريطاني جريم ويلسون، وهو كتاب يحمل عنوان"الأول".يأخذنا هذا الكتاب في رحلة فريدة تسلط الضوء على مختلف مراحل حياة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، بدءًا من طفولته في أحياء دبي القديمة، مرورًا بتجربته الدراسية في بريطانيا، ووصولًا إلى إنجازاته الرياضية ودوره القيادي في بناء "دبي" الحديثة.
يستهل المؤلف سرده بتصوير ملامح طفولة محمد بن راشد، موضحًا كيف عاش مثل سائر الأطفال، شغوفًا باللعب وممارسة الرياضة. ثم ينتقل بنا إلى مرحلة ابتعاثه إلى بريطانيا لاستكمال تعليمه، حيث خاض هناك تجارب ثرية أسهمت في تشكيل شخصيته المستقبلية. وعند عودته إلى وطنه، تبلورت بصمته القيادية بشكلٍ واضح، إذ تميّز في قيادة جهاز الشرطة، ومضى قدمًا في دفع عجلة التطوير والنهضة، ممهدًا الطريق أمام التحولات العمرانية والاقتصادية التي جعلت من دبي وجهة عالمية رائدة.
ومع تصاعد حدة التساؤلات في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008، يقول الشيخ محمد بن راشد، وجدت دبي نفسها تحت المجهر الدولي، فيما تحوّلت وسائل الإعلام التي لطالما احتفت ببريق المدينة إلى مصدرٍ للتشكيك والانتقادات الحادة. آنذاك، تعلّق الجميع بسؤالٍ محوري: ما الذي سيفعله الشيخ محمد؟ وكيف ستتجاوز دبي هذه العاصفة الهوجاء؟
رغم حدّة الأزمة وشدة الضغوط، واجه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الموقف بعزيمةٍ وإصرارٍ يضاهيان تجارب التحدي والكساد التي عايشها منذ طفولته. ففي الوقت الذي توقّع فيه كثيرون أن تنكفئ دبي على نفسها وتُبطئ وتيرة مشروعاتها العملاقة، أطلق صاحب السمو مبادراتٍ جديدة تعزّز من مكانة الإمارة العالمية، وأعطى الضوء الأخضر لخططٍ تكفل استمرار مسيرة التطوير والتحديث. ولعلّ الموافقة على إطلاق شركة الطيران "فلاي دبي”، والتمسّك بمشروع "دبي مول” ومواصلة العمل على برج خليفة رغم مخاوف المستثمرين، خير دليلٍ على رؤية الشيخ محمد المشحوذة بالمستقبل والإيمان الراسخ بأن الفرص تصنعُ في قلب الشدائد.
وسط تفاقم الأخبار السلبية عالمياً، وتواتر العناوين الصحفية المتشائمة، كان الشيخ محمد بن راشد ماضياً في جولاته الاعتيادية في أرجاء دبي، يُحيّي الناس بابتسامته المعتادة، ويستمع إلى ملاحظاتهم واقتراحاتهم. حرص على أن يُبقي ثقته ورؤيته الإيجابية حاضرة في ذاكرة المجتمع؛ إذ كان ذلك وقوداً معنوياً يطمئن الجميع بأن الأزمة ستنجلي وأن مسيرة النهضة لن تتوقف. وكان من أهم ما اتّسمت به تلك الفترة موقفه الميداني وحضوره الفاعل، إذ رأى بنفسه أحوال القطاعات المختلفة، وراجع مع فريقه القرارات والسياسات المالية لإعادة هيكلة الاقتصاد، والتخفيف من تداعيات الأزمة، بما يحفظ استقرار إمارة دبي واقتصادها.
لقد شكّلت هذه المرحلة تحدياً تاريخياً في مسيرة صاحب السمو. ومع ذلك، فقد أثبتت الإحصاءات اللاحقة وتعليقات الخبراء الدوليين أن حُسن إدارة الأزمة، والإيمان الراسخ بالقدرة على تجاوزها، هما ما مكّن دبي من النهوض مجدداً بخطى واثقة. وسرعان ما عادت الإمارة إلى جاذبيّتها الاستثمارية، مدعومةً بسمعتها العالمية ومكانتها الرائدة كمركزٍ تجاري وسياحي لا تعرف حدوده سقفاً أو نهاية.
وبالفعل، لم يكن التحدي الذي واجهته دبي في عام 2008 غريباً على الشيخ محمد الذي عاصر بدايات الإمارة المتواضعة وتقلبات أسواقها، وتشرّب من والده الشيخ راشد بن سعيد أسس الثقة بالناس والإيمان بالعمل الدؤوب. كما استوحى دروسه من محطات مفصلية كالنجاح في توحيد دولة الإمارات، والشروع في مشاريع تطويرية كبرى في أحلك الظروف. هذه التجارب المتراكمة رسّخت مبدأً راسخاً لدى الشيخ محمد: التفاؤل بالمستقبل والعمل على صناعته رغم العراقيل، وهو ما اتضح جلياً في الأزمة المالية العالمية، التي خرجت منها دبي أقوى وأكثر استعداداً للتأقلم مع متغيرات الاقتصاد العالمي.
هكذا يستكمل كتاب "الأول” سرد فصولٍ من حياة رجلٍ يصرّ على تحويل الأزمات إلى منصات انطلاق. فرؤية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ليست وليدة اللحظة، بل هي ثمرة سنواتٍ من المثابرة والدروس المتعاقبة، ما جعل من دبي نموذجاً عالمياً يحتذى به في تجاوز الشدائد وصناعة الفرص. وفي المحصلة، فإن هذه القصة الملهمة تعبّر بوضوحٍ عن النهج الذي انتهجه سموه في كل محطةٍ من مسيرته: "إذا اعترضتك الصخرة وأنت ماءٌ جارٍ، فلا تتوقف، بل امضِ في طريقك يميناً أو يساراً، لتتابع سيرك نحو المستقبل”، انصحكم بقراءة الكتاب.
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية