الأنباط -
"بلفور المشؤوم" .. لعنة تُطارد الأجيال وتغتال الأحلام وأسطورة الغياب العربي
الانباط – خليل لنظامي
لماذا لا يوجد في دول الغرب وعدٌ كـ"وعد بلفور" يحرمهم من أراضيهم ويقسمهم إلى شتات ؟ لماذا يظل الغرب ينعم بالرخاء والاستقرار، بينما نحيا نحن في جحيم الفُرقة والخراب ؟.
مثل اليوم ؛ في شتاء العام (1917) أطلق وعد بلفور شرارة مأساة لم تنطفئ منذ ذلك الحين، إذ تحولت أحلام الأمة العربية والاسلامية إلى كوابيس من الفرقة والتهجير، الوعد الذي أُعطي لـ شعب لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بـ أرض فلسطين الحرة، أسس لـ عهد من الألم المستمر والانتهاكات التي تمتد لعقود، فـ كيف يمكن لتاريخٍ مظلم أن يؤثر في حاضرٍ مليء بالانقسامات والخيانات المعاناة، ومع كل جيل ينهض تتجدد لعنة هذا الوعد المشؤوم، ويثار الجرح الذي لم يُلتئم، فهل ستستمر معاناتنا كـ عرب ومسلمين حتى يأتي يوم ينهض فيه الجلاد من على صدر الضحية.
لقد كُتب على العرب أن يرثوا انقساماتهم، وكأن أرضهم خُلقت لتُستباح وتُنهب وتُمزق، بينما تبنى الحريات في الغرب ويُعزز الاستقلال وتُحترم الحدود، ويعيش أبناؤهم في نعيمٍ من الرفاهية وحياةٍ تخلو من الغزو والحصار، وتُتاح لهم فرص التعليم والصحة والعيش الكريم، بينما تظل سماؤنا معبأة بالدخان والغبار، وأطفالنا يترعرعون وسط ركام المنازل والذكريات المظلمة.
ها هم يعيشون كما يشاؤون آمنين في أوطانهم، تحت سقف قوانين تُحترم وتُطبق، في حين تُفرض علينا قرارات من وراء البحار، قرارات تهدم بيوتنا وتشرد أبناءنا وتبني لنا أسوارًا لا نملك فيها حتى حق الحلم، بـ المقابل كلما اجتمع العرب على موقف، عاجلتهم أيدي الظلم من الداخل والخارج لتعيدهم إلى ساحة الانقسام، فـ كيف لنا أن نقارن بين أمم تصون وحدتها وتنهض برفاهيتها، وأمة تتجرع مرارة الفرقة والخيانة كل يوم؟ يعيشون في أمان وسكينة، ونحن في جحيمٍ من الشقاء نلف في حلقة مفرغة من الحروب والصراعات والاعتداءات، وكأننا محكومون بأن نبقى تحت وطأة هذا الوعد الجائر "وعد بلفور المشؤوم" الذي جردنا من الحق والأمل.
وكأن الوطن العربي فارس مغوار خرج إلى ميدان المعركة شامخًا، درعه براق وسيفه مشرّع، تحيطه أمجاد الأمس وذكريات البطولات العظيمة، هذا الفارس الذي اعتاد التصدي لأعتى الجيوش (الروماني والفرس)، والذي شهدت له صفحات التاريخ بالنصر والفتوحات والمجد، وقع ضحيةً لخيانة غادرة لم يكن يتوقعها، خيانة من داخل صفوفه، طعنةٌ غرسها من كان يُفترض بهم أن يكونوا سندًا وعونًا، وكانت ضربةً موجعة أضعفت عزيمته، فـ اجتمعت عليه الجيوش المتآمرة، ولم يكتفوا بهزيمته، بل عقدوا العزم على تفتيت جسده بكل وحشية وقسموه إلى أشلاء متناثرة كـ ذئب فتته رصاص الراعي، كل قطعة من جسده سقطت في يد طامع أو متآمر، حتى لا يقف مجددًا.
فـ أخذ الأعداء يقتسمون أرضه وثرواته، يمزقون نسيج وحدته، ويزرعون بذور الكراهية بين أجزائه المتناثرة، عاقدين العزم على ألا تجتمع أشلاؤه مرة أخرى أبدًا، ومع كل قطعة يفقدها من جسده تزداد جراحه، ويزداد نزيفه، وكأنهم يريدون دفنه تحت رماد الفتنة والانقسام والخيانة، ليمحى اسمه وتُنسى بطولاته وبطولات أجداده، إلاّ أنه وهو ملقىً على الأرض، وروحه مُثقَلة بالخيانة، تظل في عينيه نظرةٌ تعدنا أن الزمان سينقلب يوما، وسأقوم مجددا، وأستعيد هيبتي وهيبة أمتي، وألملم أجزائي المتناثرة تحت راية (لا اله الا الله محمدا رسول الله)، راية الوحدة والقومية العربية والاسلامية، راية الصمود والنصر الأبدي.
اليوم ؛ هو الثاني من نوفمبر ،، هذا اليوم المشؤون الذي يمر كـ ظل ثقيل يحمل بين طياته ذكرى وعد بلفور القذر، ذلك الجرح الذي لا يلتئم في جسد الأمة العربية والاسلامية، حين قررت بريطانيا بجرة قلم، أن تمنح أرض فلسطين لشعبٍ "عفن" آخر، وفتحت عليهم بوابة من الجحيم وبداية لنزيف مستمر لحكاية من القهر والظلم امتدت عقوداً وكُتبت بدماء الفلسطينيين وغنيت على ألحان تشريدهم وتمزيق أوصالهم، فلم يكن هذا الوعد مجرد وثيقة ورقية بل علامة داكنة في سجلات الاستعمار الغادر الغازي الذي منح نفسه حق تقرير مصير شعبٍ على أرضه، دون أدنى اعتبار لإنسانيته أو تاريخه.
لم يُكتب التاريخ فقط بـ الأقلام السياسية، بل بآلام الناس وأرواحهم التي تزهق، ودمائهم التي تُسفك، وها هو العدوان الصهيوني الاخير على غزة يجسد مثالًا حيًّا لـ الاستعمار القذر الحديث، فـ هدم البيوت فوق رؤوس سكانها، واستشهد الأطفال تحت الأنقاض، وتشردت العائلات وأصبحت بلا مأوى تبحث عن الأمان في أرضٍ يحاصرها الخوف، وكأن الأرض تُجَرُّ من تحت أقدام أهلها وأصحابها، وكأن إرادة تهدف إلى محو معالم الوجود الفلسطيني الى الأبد بكل قسوة.
فـ في غزة الآن لا مكان للهدوء والسماء تعج بأصوات القصف، والأرض ترتعد من وقع الدمار، يقف الشاب والطفل والمسن لفلسطيني على أنقاض بيته يتطلع إلى ماضي مجيد وحاضر مليء بالخذلان ومستقبل مجهول لا يراه، فـ كل قنبلة يصعق بها الأعداء أرض غزة تترك خلفها أثرًا لا يُمحى في قلب وذاكرة شعب جُبِل على المقاومة الشريفة، شعب سيبقى الأمل حيًّا فيه وفي كل صرخة مقاومة شريفة عادلة.
ومن هناك، تقف نساء غزة شامخات رافعات الرأس، رغم الجراح التي تئن منها الروح ما زلن يحملن في صمتهن ألم الأمهات اللاتي فقدن فلذات أكبادهن تحت الأنقاض، والصغيران ينظرن من على ركام بيوتهن إلى عالمٍ تمزقه أصوات القذائف التي تحاصر أحلامهن وتقصف طفولتهن، والواقع يقول أن نساء غزة تُهان في كل لحظة من هذا العدو الداعشي المتطرف، ويُقتلن بأبشع الطرق وتُنتهك حقوقهن في أعمق معانيها وسط تعالى صرخاتهن إلى السماء دون مجيب وكأن النداء العتيق "وامعتصماه" لا يجد في أيامنا هذه صدىً في آذان من خُذلوا الصدق والمسؤولية.
تقودني صرخاتهن الى استذكار قصة المسلمة التي صرخت "وامعتصماه" فسمعها المعتصم بالله من على بُعد آلاف الأميال فجهز جيشاً كاملاً لملاقاتها والانتقام لكرامتها، بينما اليوم لا تستطيع الجيوش أن تجتمع وتتحرك الأيدي، بل يخيم صمت ثقيل يزيد من قسوة المشهد وكأن العالم بأسره قد نسج حول غزة حائطًا من الصمت يغلق فيه على نسائها في قفص الألم، مطالبا بشدة أن تُترك النساء في هذه البقعة من الأرض المحترقة بلا نصير يكافحن وحدهن تحت ظلال الموت المستمرة متمسكات بـ بقايا حياة تتساقط من بين أصابعهن وعيونهن الممتلئة بالدمع والأمل تبحث في وجوه العالم أجمع عن بصيص من رجولة قد يُنهض من عظمته الأمة التي تخلت عن أبسط حقوق أبنائها.
اليوم ؛ يقف الفلسطيني وحيدًا بين أنقاض مدينته يحمل جسده المتعب وروحه التي أثقلها الفقد والحرمان، في وقت ينظر العالم والعرب خصوصًالا اليه بصمت، ولا يملكون سوى الدعاء عبر منصات التواصل الاجتماعي، مثقلون بالعجز، وكأن القضايا العادلة مجرد كلمات تُردد في المؤتمرات والندوات العالمية ولا أفعال تُطبق على أرض الواقع، معظمهم عاجزون عن التحرك وإنهاء الظلم العلني الذي يطغى ويمارس على حياة اخوتهم في فلسطين، حتى أن صمتهم بات أشبه بمشاركة غير مباشرة في إدامة هذا الجرح إلا من رحم ربي.
ومع كل عدوان جديد على فلسطين وعلى غزة تحديدا، تعود بي الذاكرة إلى صفحات من التاريخ الإسلامي القديم .. نعم "إنه قديم"، حين كانت الأمة تواجه أقوى القوات العاتية التي حاولت الاستيلاء على أرضها وهويتها وأستذكر الحملات الصليبية التي اجتاحت العالم الإسلامي في العصور الوسطى، حين احتلت الجيوش الصليبية القدس، واستباحت دماء الآلاف من المسلمين والمسيحيين العرب داخل المدينة المقدسة، وكانت القوات الإسلامية حينها ممزقة ومتفرقة تملأها الخيانات وعاجزة لمدة طويلة من التصدي لتلك الهجمة الشرسة، إلاّ أن الشعب حينها لم يستسلم وبقيت بوصلته نحو العودة، يحلم باستعادة وإنتزاع أرضه وحريته وحقوقه.
تمامًا كما يعاني الفلسطينيين والشرفاء من العرب والمسلمين الان، عاش أجدادنا في تلك العصور القسوة والألم ذاته، وذاقوا مرارة الغزو والغدر، إلا أن الوحدة التي تحققت بـ قيادة القائد صلاح الدين الأيوبي (يوسف)، كانت نقطة التحول التي غيّرت مسار التاريخ، بعد أن قام بتوحيد الصفوف، وتحرير القدس في معركة شرسة سميت بـ "حطين"، مبرهناً لـ العالم كله، أن النصر قادم بـ الرغم من كل الظروف، وأن الحقوق المغتصبة يجب أن تستعاد.
في النهاية، يبقى وعد بلفور صفحةً لا تنتهي من تاريخ الأمة، يذكرنا أن الحقوق لا تُمنح، بل تنتزع، وأن النضال ليس شعاراً يرفرف بل دم يسري في عروق من يناضل من أجل أرضه وكرامته، وقد يبقى الجرح مفتوحاً، ويبقى الصمت العربي واقعًا لا يُنكر، ولكن فلسطين لن تموت باقية ما دام هناك من يتذكر، ومن يرفض أن يسقط في أحضان الخيانة والنسيان، فـ الجميع يعلم ؛ أن التاريخ لا يرحم أحدا.