الأنباط -
تاريخهم بين فلاحين صناديد ونسوة عفيفات، قصص مدينة لا تُمحى
الأنباط – خليل النظامي
كانت الحياة في الأردن في فترة السبعينيات والثمانينيات، تنبض بـ أصالة لم تُمسّها بعد أيادٍ منحدرة نحو التحضر والإنفتاح المفرط، إذ كان الناس يعيشون في بيوت بسيطة مفعمة بالحب والتعاون، وكانت العلاقات بينهم أشبه العائلات الكبيرة، وكان الجميع يعرف بعضهم البعض ويتبادلون الاحترام والمودة.
وكان الناس في تلك الفترة يتمتعون بطيبة فطرية أصيلة، ولم تكن الحياة معقدة كما هي اليوم، وكان الجار سندًا لجاره، والصديق يضحي من أجل صديقه، وكان العشق محاطا بسيوف العفة والخجل، ولم تكن هناك مصلحة شخصية تسبق المصلحة العامة، بل كان التعاون والحب الأساس.
جرش الأصالة والعفة والكرامة والشجاعة،،،
في جرش أو ما عرفت بـ "جراسا"، كانت تسير الحياة وفق إيقاع الطبيعة التي تتحلى بها المدينة، وكان الناس يعيشون من الأرض ويزرعونها بأيديهم، ويساهمون في حصاد المحاصيل معًا، وكانت الفلاحة تجمعهم، والعمل الشاق يربطهم بروح الجماعة، ولم تكن هناك أدوات حديثة تسهل عليهم العمل، بل كان الجهد المشترك والصبر هما الأساس في بناء الحياة الكريمة لهم.
أما البداوة في جرش، فـ كانت تمثل رمزًا للكرم والشجاعة والشهامة، ولم يكن أحد يدخل بيوت البدو إلا وخرج مكرمًا، فـ البداوة علمت الناس ؛ أن الكرم يجسد الشرف الحقيقي، وكانت القهوة العربية والشاي المعتق هما عنوان الضيافة، يشربان في ليالي الصيف الطويلة تحت سماء جرش التي يضيئها نجم سهيل.
وفي ليالي الصيف والسمر، كانت جرش تتزين بـ السهرات التي تجمع الجيران والأصدقاء تحت أشجار الزيتون أو في الباحات الأمامية للبيوت (البسطات، الحيشان)، إذ كانوا يجلسون حول النار (حويطية)، يتبادلون القصص والحكايات القديمة، ويرددون الأغاني التراثية، وكان إبريق الشاي المعتق النكهة الخاصة لهذه السهرات، حيث كان يعد ببطء على نار هادئة، ويحلى بقطع من السكر القاسي، فيشرب الجميع منه بروح تشاركية صافية.
صورتان قديمتان باليتان، أجبرن قلمي على الكتابة في وصف تاريخ ما زالت جوارحي تتشبث به، تختزل فيهن الألوان الباهتة وملامح الزمن المتآكلة، يظهر في إحداهن مجموعة من الرجال يجلسون على مقاعد خشبية في مقهى قديم في جرش كان يطلق عليه "مقهى القيروان"، وتوضح الأخرى مجموعة من النسوة الجرشيات الأصيلات العفيفات يقفن على هدير شلالات نبع كان يطلق عليه "نبع القيروان".
رجال تركوا خلفهم إرثًا من القيم النبيلة لن تُنسى
كان "مقهى القيروان" بـ النسبة لرجالات جرش الصناديد أكثر من مجرد مكان يجتمعون فيه؛ إذ كان ملاذًا يعيد لهم روح الحياة البسيطة التي عاشوها، ويجدون فيه السكينة بعيدًا عن هموم الحياة وقسوتها آنذاك.
هؤلاء الرجال، كل واحد منهم كان فلاحًا، يملك في يديه قوة الأرض، ويمتهن الزراعة والحصيدة، وكأنها جزء من ذاته، وكانت أيامهم تبدأ مع شروق الشمس وتنتهي بعد غروبها، يتنقلون بين الحقول والمزارع، يحصدون الزرع، ويزرعون الأمل في الأرض الجرشية، ولم تكن حياتهم سهلة، إلاّ أنها كانت مليئة بالكرامة والعزة.
وفي أوقات فراغهم، كانوا يتوجهون إلى هذا المقهى القديم على مشارف المدينة، يجلسون حول طاولة صغيرة يلعبون الشدة، تحديدا لعبتي "الهند، والباصرة"، وكان اللعب بـ النسبة لهم ليس مجرد تسلية، بل طقسًا يوميًا يعبرون فيه عن بساطتهم وعفويتهم، ولم يكن أحد منهم يهتم بـ الفوز أو الخسارة، وإنما كانت المتعة في الصحبة ووالحب والترابط العشائري والأخوي.
كانت طيبتهم تطغى على كل شيء، ويظهر ذلك في ابتساماتهم البريئة والفرحة التي كانت تعلو وجوههم عندما يجتمعون، وكانت مروءتهم وشهامتهم تظهر في مواقفهم اليومية، فهؤلاء الرجال لم يكونوا يعرفون الأنانية، بل كانوا يتشاركون كل شيء، الفلاحة والزراعة والأحزان والأفراح.
صورة أرسلت لي مصادفة، أخذتني الى زمن آخر، تظهر بـ وضوح مدى ارتباط الرجال بـ أرضهم وببعضهم البعض، رجال كان كل همهم في الحياة ؛ تأمين لقمة العيش لأبنائهم وأسرهم، مع الحرص على الحفاظ على قيم الكرم والنخوة والشجاعة التي تربوا عليها.
رحل بعض من هؤلاء الرجال عنا، وبعضهم الآخر ما زال معنا، لكن ذكراهم باقية محفورة في قلوب من عرفوهم، وتركوا وراءهم إرثًا من القيم النبيلة وروح العطاء التي لن تُنسى.
نسوة عفيفات صابرات،،،
تحت شمس جرش الدافئة في ثمانينيات القرن الماضي، كانت الحياة تسير على إيقاعها الخاص، بعيدًا عن صخب المدن الحديثة، كانت النساء يجسدّن رمز لـ القوة والتحمل، متحديات قسوة الحياة اليومية بشجاعة وقلب ينبض بالعطاء.
كانت النسوة يتجولن يوميًا من بيوتهن إلى نبع معروف بنقاء ماءه يطلق عليه إسم "نبع القيروان"، حامِلاتٍ الجِرار على أكتافهن بكل أناقةٍ وصبر، والطريق لم يكن سهلًا، بل كان مليئًا بـ الصخور الوعرة والوديان الضيقة، ورغم ذلك كله، لم تكن أي منهن تتذمر، بل كانت خطواتهن تفيض بـ العزيمة والقوة، وكان حمل الماء يمثل عبئًا ثقيلًا، إلاّ أنه كان جزءًا من الحياة التي يعلمن أن يعشنها بكل بساطة وعقوية وشجاعة.
وخلال جولة جلب الماء، كانت النسوة يتبادلن الحكايات والضحكات، محولات كل لحظة تعب إلى فرصة لبث الحياة الجميلة في أجواء يومهن، إذ كانت الأصالة تنبع كـ الماء النقي من كل كلمة ونظرة؛ فهن لم يكنّ فقط يجلبن الماء لبيوتهن، بل كنّ يحملن أيضًا تراثًا غنيًا بالعادات والتقاليد الأردنية الجرشية الأصيلة.
كانت تلك النسوة عنوانًا للصمود، وأيقونات للبساطة والعفة والكرامة، وعلمننا أن القوة ليست في عدم الشعور بـ الألم، بل في القدرة على تجاوزه بابتسامة وصبر، ورغم أن تلك الأيام قد ولّت وإنتهى عهدها وبات ذكريات راحلة، إلا أنها ذكريات تبقى حية في قلوب من عرفوا قصصهن.
تبقى ذكريات السبعينيات والثمانينيات في جرش محفورة في قلوب من عاشوا تلك الأيام، تروي حكايات عن زمن كانت فيه البساطة عنوان لـ الحياة، والأصالة زادًا يوميًا لـ البسطاء، وكان الجار عونًا لجاره، والكرم شرفًا لا ينفصل عن الرجولة، والشجاعة مبدأ لا يتجزأ من شخصية أهل جرش.
ورغم أن تلك الأيام قد ولّت واندثرت تحت وطأة التحديث والتحضر والإنفتاح، إلا أن إرثها يظل حيًا، تتناقله الأجيال كهبة ثمينة من زمن مضى، تاركًا وراءه عطرًا من الكرامة، والنخوة، والتآلف الذي لا ينسى.
في كل زاوية وزقة ووكر من جرش، وفي كل نبع وحقول الزيتون والعنب، تحيا روح تلك الأيام، تذكرنا بما كان عليه الأردن من بساطة ودفء، وتدعونا للتأمل في معاني الحب والوفاء التي جمعت الناس في تلك الأوقات، وتجعلنا نشتاق إلى تلك اللحظات التي شكلت جزءًا أصيلاً من ذاكرة المكان والزمان.