نضال منصور
مضى أكثر من 100 يوم على عدوان الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة، وفي كل يوم تتواصل المجازر، ويزداد عدد الشهداء، ويعمّ الدمار، ويصل الناس حد المجاعة.
لم يلقِ
الاحتلال الإسرائيلي بالا للدعوات بوقف هذه الحرب، بل كان يُمعن أكثر في جعل
الحياة مستحيلة في غزة، ورغم المظاهرات التي تعم شوارع كل مدن العالم المُنددة
بجرائم الاحتلال، والمطالبة بالحرية لفلسطين بقيت عواصم غربية تشكل غطاء سياسيا
داعما لإسرائيل، وتعمدت تعطيل عمل المنظومة الأممية.
المتغير الأساسي منذ بدء هذه الحرب كانت قضية الإبادة الجماعية
التي اقامتها دولة جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال، وهي محاولة ربما تكون الأخيرة
في استخدام آليات الأمم المتحدة لتحقيق العدالة، وسيادة القانون، وإن فشلت فإن
قانون القوة يسود، ولا تعود هناك أي حاجة لكل هذه المعاهدات، والاتفاقيات إن كانت
وثائق فقط غير قابلة للإنفاذ، والتطبيق.
بعيدا عن التكهنات بقرار محكمة العدل الدولية، فإن محاكمة
إسرائيل بحد ذاتها تشكل علامة فارقة، فعلى مسمع، ومرأى كل العالم كانت حكومة جنوب
أفريقيا توثق الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، لم تلجأ في أدلتها إلى
أصوات فلسطينية لتوثيق المذبحة، بل عرضت كلام قادة الاحتلال الإسرائيلي الذي يشير
بوضوح إلى نيتهم ارتكاب جريمة إبادة، فهم قتلوا أكثر من 24 ألفا، جُلهم من الأطفال
والنساء، وهم يمنعون الغذاء، والدواء، والماء، والكهرباء، والوقود لإهلاك الجماعة
الفلسطينية، هذا عدا عن التصريحات العلنية لقادة الاحتلال بأهمية القضاء على كل
سكان غزة، وحتى مزاعمهم بأن يتجه السكان لمناطق آمنة كانت شراكا لقتلهم، يُضاف لها
الاستخفاف بكرامتهم الإنسانية، ووصفهم بالحيوانات، وتجريدهم من ثيابهم بشكل مذل
عند اعتقالهم، وكما يُقال «من فمك أدينك».
دولة جنوب إفريقيا التي عانت من الفصل العنصري تتصدى لدولة
إسرائيل التي أكدت تقارير أممية، ومنظمات دولية أنها دولة فصل عنصري بامتياز، وهي
- أي جنوب أفريقيا - التي عانت أهوال التمييز تقف لتعرية إسرائيل، وفضحها، والعمل
على مساءلتها.
قوة دولة جنوب أفريقيا أنها لا تخضع للمساومات، والابتزاز
الأميركي، والأوروبي، وحدود الدعوى حال ثبوت جريمة الإبادة يطال الدول المتواطئة
التي ساندت إسرائيل، ومنعت اتخاذ قرارات لوقف الحرب، وبالتالي وقف الإبادة
الجماعية، عدا عن مساهمتها في إمدادها بالسلاح الذي كان أداة لقتل المدنيين.
أكثر ما يهم، وهو مستعجل أن تتخذ المحكمة قرارا احترازيا
بالدعوة لوقف الحرب، وهو سيكون قوة قانونية لمواجهة إسرائيل، وعلى مجلس الأمن
اتخاذ التدابير لإنفاذ القرار، وسيكون من العار على أميركا، أو أي دولة غربية أن
تُعارض قرار أعلى سلطة قضائية في الأمم المتحدة.
ملاحقة إسرائيل وفق آليات الدولية ليست قضية عبثية، حتى لو كان
واضحا أن الاحتلال يضرب بعرض الحائط بعشرات القرارات، ولا يحترمها، أو ينفذها، ففي
ظل غياب عربي عن مواجهة إسرائيل، لا بديل سوى استخدام كل أوراق القوة المتاحة
للفلسطينيين.
كثيرة هي التداعيات التي تخشى إسرائيل منها في حال إدانتها في
جريمة الإبادة الجماعية، ربما أهمها أنها تفتح الطريق لملاحقة قادة الاحتلال أمام
المحكمة الجنائية الدولية، ولا يقل أهمية نبذ، وعزل إسرائيل، وخلق رأي عام دولي
مناهض لها، قد يكون خطوة على طريق أحكام المقاطعة السياسية، والاقتصادية، وقد يؤدي
إلى الامتناع عن تزويدها بالأسلحة، وفرض عقوبات عسكرية، واقتصادية، وقد تمتد عند
بعض الدول لقطع علاقاتها السياسية مع دولة الاحتلال.
قرار المحكمة النهائي سيحتاج وقت، وقصة تسييس المحكمة، وتأثير
الدول الكبرى مسألة قد تكون من بين المخاطر، والحسابات، ولكن علينا أن نتذكر أن
ذات المحكمة أدانت إسرائيل بقضية الجدار، والدماء الفلسطينية التي اريقت دليل دامغ
على مذبحة مستمرة لا يمكن تجاهلها، والشارع العالمي صرخاته التي تدين الاحتلال
تصل، وتسمع من قضاة المحكمة، والنصر المؤقت الآن أن تنطق المحكمة بقرار وقف الحرب
لأن الجريمة ستستمر، وعليها أن تتدخل فورا لوقفها.
في سياق القضية كانت هناك مطالبات للدول العربية بالتدخل
القانوني لدعم جهود جنوب إفريقيا، والاردن أعلن فورا أنه سيقدم خبرته وموقفه
القانوني الداعم لجنوب أفريقيا، وهذا واجب، وأقل ما يمكن أن نفعله، وفي المقابل
هناك أصوات شعبية تقول علنا للدول العربية ابتعدوا عن هذه الدعوى حتى لا تبطلوها.
جنوب أفريقيا أصبحت عنوانا للعدالة، والضمير الحي، ومبادئ
الزعيم العظيم نيلسون مانديلا لم تمت، وهي شمعة تنير الدرب للحق، وتواجه الطغيان،
والاستبداد.