الأنباط -
بقلم / ربى ريحاني
من أروع الأمور التي يتمنّاها الإنسان هو أن يعود يومًا ما إلى رحم أمه، حيث يجد نفسه قابعًا في ذلك المكان الذي يوفِّر له الشعور بالحُبِّ، والأمان والانتماء. هذا ما فعله كاتب الرواية في روايته الأولى "عين التيس". لقد أثارت الرواية مشاعر الحنين والذكريات الجميلة من خلال تجسيد الأحداث والمكان والزمان تمامًا كما لو أنها حدثت معك شخصيًّا. دارت أحداث الرواية وبطلها سامي، وعاطف أبوه، وأمّه هدى في عِبّين مسقط رأس العائلة، ذلك المكان الذي زرع في سامي حبَّ الانتماء للوطن وأحاطه بالشعور بالأمان.
جمع الروائي سمير القضاة التاريخ والأدب والفن والإنسانية كلَّها في مكان واحد، فهو لم يذكر حدثًا أو وصفًا لمكان إلا وذكر خلفيَّته وأصوله. تلاحظ فورًا عمق الكاتب وحجم ثقافته وذكائه بنكهة فلاحيَّة ساخرة ومضحِكة. لم أشعر بتاتًا أنَّ شخصية سامي من وحي الخيال، بل هي حقيقة والأحداث التي رافقَته حقيقيَّة وبعيدة عن المبالَغة الزائفة.
بينما كنتُ أقرأ قصصَ سامي الطريفة غشيت مرارًا من الضحك المصحوب بمشاعر الفخر والاعتزاز، فقد أعادت لي التاريخ ولو للحظات. كان سامي ينتظر بفارغ الصَّبر ركوب حافلة عجلون – إربد ليزور عروس الشمال ويستمتع بالمشي في شوارعها مرورًا بشارع السينما، وهو من أهمِّ وأقدم شوارع المدينة والذي حافظ على مكانته حتى هذا اليوم. كان سامي العبقريّ متحمِّسًا لمشاهدة الأفلام في سينمات إربد، كالجميل أو الدنيا. مثل هذه الأحداث عشتُها تمامًا وصديقاتي، فالذهاب إلى السِّينما كان من الممنوعات أو مما يحتاج إلى توسُّل وإلحاح مُمِلَّيْن على الأهل ليأذنوا لنا بهذا النوع من التَّرفيه. كان التوقُّف عند حلويات الشرق العربي لأكل الكنافة الخشنة أمرًا أساسيًّا، وخاصة عندما كان يُرافق جدَّه وجدَّته أبا عاطف وأمَّ عاطف.
سامي ذلك الطفل الشقي (كثير الحركة والنطنطة) اتَّصف بالبحث عن كل أمرٍ لا يعرفه، فكان كثير التَّساؤل وكثيرًا ما أوقعَته هذه العادة في متاعب جمَّة مع أهله ومعلِّميه. كان سريع البديهة واجتماعيًّا ويعشق لعبة كرة القدم، لذلك فهو كثير الحماس لحضور مباريات كرة القدم في الملعب البلديِّ الذي يقع شرقيَّ مدينة إربد. وكم أسرَني الحنين لمدينتي إربد؛ شارع فلسطين، وشارع الحصن، وجامعتي الحبيبة اليرموك التي ما زلت على علاقة بها من خلال نادي الخرّيجين "سنابل اليرموك".
لقد أبدع الكاتب في وصف الطبيعة الخلّابة ابتداءً من نبع عين التيس، وهو الأكثر شهرة في جبل عجلون وعين البخاش، وعين جنَّة، واشتفينا، وراسون، ورأس منيف، وعرجان، وغيرها، الأمر الذي يجعلك تشعر وكأنك في رحلة سياحيَّة، والرّاوي هو المُرشد السياحي. أما إذا كنتَ من أهل الشمال، فسيطرب قلبك لهذا الوصف الجميل؛ لأنك جزء لا يتجزَّأ من المنطقة الخلّابة المُحاطَة بالمياه العذبَة وأشجار البلوط والسرو والسنديان والكينا، ناهيك عن أشجار الزيتون والتين والعنب، رغم المنحدَرات والطرق الضيِّقة والوعرة.
لا أستطيع أن أقول بأنَّ عين التيس رواية ذكوريَّة، فقد حرص الكاتب على إبراز دور المرأة كزوجة وأمٍّ لها وزنها واحترامها عند الفلاحين، وركَّز على ناحية الزواج المبكِّر عند البنات بسبب مجتمع العار، كيف لا وهي التي تحمل شرف العائلة على كتفها. ولقد ذكر أمرًا آخر، وهو حجاب المرأة وبالذات الفتيات، فهو سبب أساسيٌّ لعدم زواج الفتاة غير المحجَّبَة وبقائها عزباء إلى الأبد.
لقد أشار الكاتب إلى أحداث تاريخية مهمَّة، مثل حكم الأتراك، تأسيس المجالس البلديَّة، ومحاولة اغتيال مُضَر بدران والقضية الفلسطينيَّة، ودور الأردنِّ في الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة.
وقع سامي في حبِّ هند التي تعيش معه في ذات القرية، ولكنه سرعان ما تعلق بفتاة جامعية تكبره بأربع سنوات. وتناول كذلك موضوع زواج البنات المبكر في القرى، حتى قبل الحصول على شهادة الثانوية العامَّة، إلّا أنَّ وجود هذه الظاهرة لم يمنع الكثير منهن من استكمال تعليمهنَّ والحصول على شهادات علميَّة من جامعة اليرموك. في هذه الأثناء كان سامي يُحِبُّ النساء، فلا غِنى عنهنَّ في حياته، وقد أحبَّ ليندا طالبة الهندسة في جامعة اليرموك، أحبَّها كثيرًا مع أنها كانت تكبره بأربع سنوات، والتي كانت تبثُّ في سامي أفكارها الاشتراكية والثورية معتمِدة على سِعة اطِّلاعه وحبِّه للكتب، ونزوعه إلى التحليل وإعادة تشكيل هُويَّته بعيدًا عن العادات والتقاليد الريفية الصّارِمة. لكن، لم يدُم حبُّهما طويلًا وافترقا لأسباب خارجة عن يده، وعندما أنهى التوجيهي والتحق بالجامعة الأردنية أحبَّ نتالي التي كانت زميلته في كلية الهندسة، ولم يحالفه الحظ أيضًا معها بسبب إلحاح أهلها على تزويجها من دكتور جامعي والده صديق والدِها.
لقد ربط الكاتب شمال الأردنِّ بجنوبها من خلال نسج الأحداث معًا، سواء الحياة الاجتماعية أو السياسية التي كانت تعيشها المنطقة، وخاصَّة ازدياد نشاط التيارات المختلفة، لكنه لم ينسَ ربط سامي مع ذاته عندما جلس وحده في الغابة الغربيَّة في دير الياس ليفكِّر بعمق بشخصياته الكثيرة التي يتقمصها حسب المجتمع الذي يكون فيه، وكذلك إنسانيَّته الدَّمِثة وحسن سيرته، حيث وجد نفسه يقف أمام مرآة الضمير في مواجهة مع ضميره الذي لا يكذب أبدًا.
ختامًا، فقد سرقت رواية عين التَّيس قلبي وحملَته بعيدًا في رحلة إلى حقبة تاريخية رائعة عشتُها وكانت أجمل سنين عمري، كيف لا وهو يتغزَّل بمسقط رأسي إربد عندما قال: "يا شقيقة عمان وابنة دمشق وقرينة عجلون، ها أنتِ تمتدّين على مساحة حوران كسجّادة تحمي أقدام العابرين من أشواك الحياة، وتمنحين البسطاء قمحًا ذهبيًّا كمعدن قلبك الكبير". انتهت الرواية بتعريفه للوطن بأنه مسقط رأس الفرد والمكان الذي يرى النور فيه، وهو الأرض التي تحتمل ثِقل قدمَيه عليها بحنوِّ الأمِّ على رضيعها. وكم ترقَّبتُ بحماس لحظة تخريج سامي ورؤية الفرحة والبسمة على وجه والدَيه، وسماع الزغاريد احتفالًا بهذا الشيطان الصَّغير والذي سيصبح المهندس سامي المليان، ولكنَّ الكاتب أنهى روايته قبل حصول ذلك.
ألف مبروك للوطن صدور رواية " عين التيس ".