الأنباط -
احتفالنا بعيد الأُم في الأردن، في 21 من مارس/آذار الحالي، إنما هو انعكاس لعُمق اللُحمة الأسرية التي تربط بين أضلاع العائلة النووية وفروعها المتشعبة والمُتكاثرة بفضل الأُم الرؤوم من أبناء وبنات يتكاثرون باضطراد. عائلات تكبر وتتوسع إلى عشائر وقبائل وشعوب وأُمم. الأُم هي مصدر الحياة الدافق والجمال والمحبة، ومنها غزارة محيط ضخم لا حدود له من العواطف الحقيقية والمخلِصة لأبنائها وذريتها، والأُم تفتدي جميع هؤلاء بكامل حيوتها وروحها دون مواربة، وبلا بحث في مصلحة أو مكسب ما.
على مِثال حفيدي الصغير المَحفود والمَخدوم بعيوننا "دوسي"، الذي يعيش إلى جانبي، لاحظت عليه وعلى جدَّته – زوجتي يلينا، مدى تفاعلات الرومانسية والعقلية الكثيفة الطاغية على علاقاتهما إلى حد الإدمان، وَجَودَة وُعمق الترابط بينهما والتي يستحيل وصفها بكلمات اللغة، فهما يتلازمان روحياً في حَيوة واحدة، ويكملان بعضهما البعض كإنسان واحد لا اثنان، ومن هنا يسرح الطفل ويمرح بحرية في بيت جَدَّته لا حدود لها إطلاقاً لأنه بيته، يُفَعِّل فيه أنشطته، ويبسط عليه سطوته، ويُصدِر منه أوامره الجنرالية إلينا في كل مجال ومضمار، فهو برغم صِغر سنِّه يُدرك تمام الإدراك أن رغباته تتحقق فلا يمكن لجدَّته وجدَّه أن يتفوها بكلمة "لا" أمامه، وهو ما يترسخ في تلافيف عقله ومشاعره في ذكريات جميلة مدى عمره. علاقة التواد والتراحم هذه مُلتحِمة بعضهما ببعض بالروح والدم واللحم، وتُفضي إلى بُنيان بشري أراده الله للبشر، كل البشر.
أذكر ذات ليل بهيم واحدة من مآثر أُمي المرحومة سُعاد جريس دبدوب، وهي كيف حملتني على يديها الحنونتين وأنا أبكي بحرقة من جوعٍ كاسر؛ وأطلب باكياً بكآبة وكمد ولو قطعة ما من "الكنافة"؛ لتسير بي مشياً على الأقدام لمسافة 11 كيلومتراً أو يزيد، أي من "الجامعة الأردنية" التي تأسست عام 1962؛ إلى بيتنا في جبل عَمَّان، والسبب كان عدم توافر حافلة ما، سيارة أو تاكسي، فقد كانت العاصمة صغيرة المساحة، ووسائط المواصلات فيها شحيحة آنذاك قبل سنة 1967، ونادراً ما تسير ليلاً، ذلك أن تلك المنطقة البعيدة عن قلب عَمَّون – عَمَّان لم تكن في تلك السنين مخدومة ولا مسكونة ولا ناشطة سكانياً وتجارياً كما حالها في عصرنا الراهن الزاهر.
في صورة تضحية أخرى أذكرها جيداً، أنني أصبت ذات مرة في أوائل حياتي بحروق فظيعة غطت كامل جسدي، وجعلته ميتاً بكل ما في الكلمة من تفاصيل ومعنى، إذ اندلق على رأسي وجسدي قدر ماء ساخن كان يَحتر في "الوْجاقِ" بالمطبخ، الذي كنَّا نُسَمِّيه شعبياً بـِ"الوجاء"، وهو المكان المخصص في زاوية من زوايا المطبخ الذي كان يُحفظ فيها سابقاً "بابور الكاز" الذي كان منتشراً في الأُردن قبل أن تَحل مَحلَّه أجهزة تحضير الطعام الجديدة، ومنها أجهزة "الغاز" الصغيرة والمسطَّحة الشكل وذات "العيون" الثلاثة. ما حدث جعل مني مشوَّهاً جسدياً، وكأن قنبلة فسفورية قد أحرقتني في حرب ضروس بين متحاربين في سوح مواجهات حامية. أمي أصابها ما لم يُصبها في حياتها من صدمات وكآبات متواصلة، إلا أنها استجمعت شجاعتها وصلابتها كإيطالية تتسم بالقوة والتصميم، ولم تبق مكاناً وبلداً مجاوراً إلا وراسلته أو أخذتني إليه لعلاجي، وقد فشل الجميع في إيجاد وسيلة مناسبة لإنقاذ حياتي.
أذكر، برغم صِغر سني آنذاك قبل دخولي إلى الصف الأول في مدرسة "تراسانطة" بجبل اللويبدة، حين لم أكن بعدُ قد تعلمت نطق كلمات اللغة بشكل صحيح، أن حتى مستشفى "هداسا" اليهودي في القدس الذي حملتني إليه البطلة أُمي لم يتمكن من علاجي، فإلى هذا المشفى كان يتوجه عدد غير قليل من العرب للعلاج فيه كونه متقدماً علمياً. إلا أن الفرَج كان حليفي إذ وجَّه بعضهم أُمي ولا أذكر مَن هم، أن تعرضني على راهبة تخدم في كنيسة في مدينة القُدس، قُدس الأقداس، كونها ضليعة وناجحة في معالجة الأمراض والحروق بالأعشاب الطبيعية. وهكذا كان بعد أن كادت أمي تفقد الأمل في علاجي وإعادتي إلى صورتي الجسدية الطبيعية. تمكنت الراهبة من إنقاذي كما لم يتمكن غيرها من أهل الطب والأطباء والمتخصصين الدارسين في جامعات الغرب وأوروبا الغربية والممارسين للطبابة فيه. كانت الأعشاب حليفي، وسرعان من تم انتشالي من الهاوية، لكن بعضاً من هذه الحروق من تزال ماثلة إلى اليوم في جسدي علامة واضحة على قصة اجتراح "الأم البطلة" بطولات إنقاذية لابنها، إذ تفتحت أمامها أزهار الكروم والمروج، وابتسمت الحياة من جديد وعادت الضحكة إلى مُحيّاها، فقد ساندها الله ولبّى ابتهالاتها، فقد كانت سُعاد دبدوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، مُسلِّمةً نفسها للمولى في السراء والضراء على حد سواء.
احتفاؤنا بـِ"عيد الأُم" أو "يوم الأُم" في 21 من مارس سنوياً، والذي يتزامن أيضاً مع عيد "النوروز" الربيعي في أذربيجان وغيرها من الدول، هو احتفائية حديثة العهد نسبياً يُعِيدها البعض إلى مطلع القرن العشرين، ففي هذا اليوم تُكرَّم الأمهات والأمومة، ويدَّعي البعض أن هذا العيد ظهر بدعوة من مفكرين غربيين بعد أن وجدوا الأبناء في مجتمعاتهم يُهملون أُمهاتهم، ولا يؤدّون الرعاية التي تستحقها الأُمهات، بالرغم من أن مسيحيي الغرب كانوا وعلى الأغلب ما زالوا يحتفون بهذا العيد باسم "أحَد الأُمومة"، لكن في الشرقين العربي والإسلامي، وفي العائلات الغربية المتدينة يُعتبر احترام الأُم والمرأة وتبجيلها سُنَّة حَميدة منذ الأزل. نحن الشرقيون نختلف تماماً عن الغربيين في كل شيء، ولا نتفق معهم سوى في مشتركات قليلة مُحدَّدَة، ورحمةُ الله على مَن قال وردد في فضاء الكون الشعار الصريح التالي: "الشرقُ شرقٌ والغربُ غربٌ ولن يلتقيا"، وأضيف أنا على ذلك: لن يلتقيا أبداً وإلى نهاية التاريخ وانقراض الإنسان والكرة الأرضية، ولو بعد مليون سنة!
(*)