الأنباط -
الإنسان المعرّض للفناء
أ.د. سلطان المعاني
يبدو كأنّ في هذا العالم لجنة خفيّة تعيد توزيع صفة «الإنسان» على البشر: هناك من تُصاغ حياته في الخطاب العام كقيمة لا تُقدَّر بثمن، وهناك من يُعامَل وجوده كرقم زائد يمكن الاستغناء عنه. الأخطر من ذلك أنّ الجماعات الأقوى لا تكتفي بإهمال ضحاياها، فهي تعمل على قلب الأدوار: يتحوّل المعتدى عليه إلى متَّهَم، ويُطالَب المقتول أن يشرح لماذا قُتل، ويُسأل الغريق عن سبب وجوده أصلًا على حافة الماء.
كيف وصلنا إلى هذا الحد من الانقلاب في المفاهيم؟ جزء من الجواب يكمن في اللغة. تُنتج السياسات الحديثة قاموسًا كاملًا يخفّي العنف تحت طبقات من الكلمات المنمّقة: «أضرار جانبية»، «اشتباكات»، «تبادل نار»، «إدارة أزمة»، «هجرة غير نظامية». يستيقظ الناس على صور جثث وأحياء مدمّرة، بينما تخبرهم البيانات الرسميّة أنّ ما جرى «عملية موضعية محدودة». بين المشهد الحيّ والكلمات فجوة واسعة، تُملأ بالتبرير والالتفاف، ثم تُلقى المسؤولية في النهاية على من لا يملك من أدوات القوة سوى جسده.
الإعلام يشارك بدوره في هذا البناء. يختار زاوية التصوير، وضيوف الشاشات، والأسئلة التي تُطرح، فيبدو الضحايا كأنهم مشكلة أمنية أو إنسانية طارئة، لا نتيجة مسار طويل من القرارات والسياسات. يتم التركيز على ردّ الفعل العنيف للفرد أو الجماعة، ويُغضّ الطرف عن العنف البطيء الذي سبق ذلك: حصار، فقر، نزع موارد، إذلال يومي على الحواجز والحدود. هكذا يظهر الضحية في المشهد الأخير وحده، منفصلًا عن سياقه، فيُدان على ما فعله وهو محاصر، ويُعفى من المحاسبة من قرّر شروط الحصار نفسها.
في الخلفية تاريخ أطول من العنصرية والاستعمار وتراتبيات الثروة. قرون من تقسيم العالم إلى مراكز وأطراف خلقت طبقات غير معلنة من الإنسانية: إنسان «كامل الحقوق»، وإنسان «قابل للتضحية». هذا التقسيم لا يُقال صراحة في الدساتير، لكنه يتسرّب إلى كل شيء: من سهولة منح جواز سفر، إلى سرعة الاستجابة لكارثة، إلى طريقة تغطية موت الضحايا في نشرات الأخبار. حين تغرق قوارب المهاجرين، يُسأل أولًا عن «قانونية» وجودهم، ثم تُناقَش أخلاقية إنقاذهم، كأن الحياة نفسها صارت مشروطة باجتياز امتحان البيروقراطية.
سياسات الذاكرة تلعب دورًا حاسمًا في تثبيت هذا المنطق. هناك جروح تُرفَع إلى مرتبة «الجرح المؤسِّس» لأمم بأكملها، تُدرَّس في المدارس، وتُخلَّد في المتاحف والنصب والأفلام. وهناك جروح أخرى يُطالَب أصحابها بالصمت، أو يُتركون يروون حكاياتهم في هامش ضيّق لا يصل إلى الفضاء العام. حين يُستثنى ضحايا معيّنون من الذاكرة المشتركة، يُرسَّخ ضمنًا أنّ حياتهم أقلّ وزنًا، وأنّ غيابهم لا يستحق وقفة طويلة.
في الواقع اليومي، تظهر هذه الانقلابات في أبسط التفاصيل. ضحايا العنف الأسري يُسألون لماذا لم يغادروا البيت. ضحايا الفقر يُلامون على «قلة الاجتهاد». ضحايا الحروب يُحمَّلون مسؤولية «اختيارات سياسية خاطئة» وكأنهم هم من رسموا خرائط العالم. الإنسان المهدَّد بالفناء يجد نفسه في موقع دفاع دائم عن حقّه في التعاطف، قبل أن يطالب بأيّ حقّ آخر. يتحوّل من جسم مثخن بالجراح إلى «ملف» يُناقَش في استوديو، أو «حالة» تُصنَّف ضمن تقارير دولية، بينما يتراجع البعد الأخلاقي إلى هوامش النقاش.
مع تغيّر المناخ والكوارث المتسارعة، اتّسع هذا المنطق إلى الطبيعة ذاتها. مجتمعات كاملة تُدفَع بعيدًا عن أراضيها بسبب الجفاف والفيضانات وارتفاع البحار، ثم يُقال عنها «مهاجرون اقتصاديون» كأنّ الكوكب لم يُدفع دفعًا إلى حافة الاختناق. هنا يلتقي الجسد المعرّض للفناء مع المكان المهدّد بالخراب؛ ويُعامل الطرفان كأنهما قابلان للاستبدال، أو يمكن تركهما ينهاران بهدوء خارج عدسات الكاميرا.
مع ذلك، ما يجري ليس قدرًا مفروضًا. هذا الواقع نتاج منظومات محددة من السلطة والاقتصاد والخطاب، ويمكن تفكيكها ومساءلتها. الخطوة الأولى أن نتنبّه إلى لحظة قلب الأدوار: حين يتحوّل الضحية إلى متَّهَم لمجرّد أنّه عاش في المكان الخطأ أو الانتماء الخطأ أو الطبقة الخطأ. والخطوة الثانية أن نعيد بناء حسّنا الأخلاقي حول سؤال بسيط: هل نقبل فعلًا أن نعيش في عالم تُقسَّم فيه الأرواح إلى ما يستحق الإنقاذ وما يستحق التجاهل؟
إعادة الاعتبار للإنسان المعرّض للفناء ليست شعارًا عاطفيًا، وإنما مشروع سياسي وأخلاقي ومعرفي في آن واحد. مشروع يبدأ من اللغة التي نستخدمها، ويمرّ بالسياسات التي تُصاغ باسمنا، وينتهي بالطريقة التي نختار بها أن نتذكّر. حين نوسّع دائرة من نراهم ونسمعهم ونحزن لأجلهم، وحين نربط الجروح المحلية بالأفق الكوكبي المشترك، نكون قد خطونا خطوة صغيرة في مواجهة هذا القلب القاسي للمفاهيم، خطوة تقول إنّ الإنسان – أي إنسان – ليس مادة فائضة في معادلات القوة، وإنّ الحق في الحياة والكرامة لا يُجزَّأ ولا يُقاس بميزان العرق أو الجنسية أو الموقع على الخريطة.