الأنباط -
بين فهم امر الله وبين تطبيقه هناك مساحة كبيرة، وهامش تقع فيه اخطاء تكلف الأمة الكثير والكثير للإسف، وهنا تقف مع بعض الفتاوى التي اطلقها من ظن الناس فيهم علم وتقوى، وكانت لهذه الفتاوى جريرة عظيمة، كلفت الأمة احيانا حريتها واموالها وكرامة انسانها، وحرائر ذهبن ضحايا لمثل هذه الفتاوى.
وهذه الأخطاء وقعت حتى من الصحابة رضوان الله عليهم، فمن أفتى بالغسل للجريح، ومن قتل من قال لا إله إلا الله ظانا انه يفر بها من الموت، ولا أقول بأن الأمة معذورة في الأخطاء الكبيرة، فهنا يقع الوزر على الجميع كل بحسبه، ولا ننسى بأن هناك امور لا عذر شرعي بعدم العلم فيها، فيجب على المسلم أن يجتهد للوصول إلى الحق ولا يعذر بالجهل، ولن تستطيع ان تجعل غيرك يتحمل وزرك، ولو أدعى بأنه رجل دين او صاحب علم شرعي، لأن كل منّا يحاسب فردا.
ومطلوب منه الحد الذي يقيم به الدين على خلاف في هذا الحد، ولكن لا عذر بفتوى من افتاك ولو افتوك الناس وافتوك فلن ينجوك، هذا ما ذهب إليه مجموعة من العلماء، واجد نفسي مرتاحا لهذه الفتوى، وإلا لكان الكل معذور بأي قول صدر من هنا او هناك، وبعض هؤلاء باع دينه بعرض من الدنيا قليل، وبعضهم حاول واخطأ، ولكن من اجتهد فأخطأ هل هو معذور، هذا ارى فيه قول كبيرا، ولكن من اجتهد بحق الاجتهاد، فهل حقق حق الاجتهاد حتى يتحصل على العذر ..الله اعلم، وضاعت بفتاوى هؤلاء حقوق وحدود وارواح ودول.
وخذ على سبيل المثال تلك الفتاوى التي ساهم الإستعمار في صياغة ورعاية من اطلقها، من ضرورة عدم مقاومة المستعمر، والحكم للغالب، والرضا بقضاء الله وقدره، ولو شاء الله لخلص الأمة منهم، وخذ تلك الفتوى العجيبة التي اطلقها احد رجال الدين( واقول متعمدا رجل دين لأنه لو كان عنده علم، لأدرك اثر هذه الفتوى على المسلمين ودورها في سقوط الهند، ونحن بحمد الله لا نعترف برجال الدين، ولا نقر حتى للعلماء على المخالفة لمنهج الله الواضح السليم، فقد علمنا رسولنا ذلك صل الله عليه وسلم، وصحابته الكرام) ودفع المسلمون في الهند ثمن هذه الفتوى وما زالوا يدفعون.
وهي في حرمة محاربة القوات الهندية المسلمة، وحرمة القتال مع هؤلاء القادة المسلمين، لإن القادة المسلمون لا يجلسون على مائدة واحدة في الطعام مع الجنود، فأين المساواة التي طالب بها الله عز وجل، ولقد كرم الإحتلال البريطاني هذا الشيخ لاحقا، وما حدث في الجزائر وتونس وليبيا، وكل الدول التي تعرضت للإحتلال او الإستعمار أو الإستعباد قل ما شئت، فقد دفعت الأمة الثمن غاليا.
وكان لهؤلاء يد في بقاء المحتل وطول سلامته، بسبب فتاوى من هذا القبيل، وعدم إلقاء النفس إلى التهلكة، وهذه الآية على قول صريح، في باب ان الركون إلى الدنيا وأهلها هي التهلكة، وإن الجهاد هو الحياة للأمة، والطريق للتخلص من الذل والإستعمار، والطريق لإزالة المحتل، والنهوض بالأمة.
وهناك العديد من الفتاوى التي ساهمت بهدم بيوت وأسر، واغلاق أعمال ومصانع وتجارات، كانت هي مصدر دخل وكرامة لأهلها، بسبب فتوى من انسان لم يصل إلى درجة الفتوى، وبعضنا رأى من هؤلاء من أفتى بحرمة أمر ما، ثم عندما أصبح هو في موقع من أفتى لهم، احل ما حرمه سابقا، ظانا او مدعيا ان الأمور اتضحت له، ولم تكن واضحة قبل ذلك، ولكن من يتحمل جريرة عدم علم هذا، او جرأته على الفتوى، وهو لا يعلم ظرفها وزمانها وحدود العلم فيها، وتحضرني هنا قصص من أولئك الذين أفتوا سابقا بحرمة الضمان الإجتماعي، وحرم عائلات وأسر من مصدر دخل محترم بسبب شبهة ما، ظن أنها سبب في التحريم، ثم عاد هؤلاء واشتركوا في خدمات الضمان الإجتماعي. ومثل هذه القصص كثيرة في الوظائف والتجارة والمعاملات، ولو تفرغ بعض من يدرسون الدراسات الشرعية على كثرتهم لدارسة مثل هذه الفتاوى لوجدوا العجب.
وهنا أقرّ لدائرة الإفتاء الأدرنية بالحرفية والمهنية، ومراعاة احوال الناس ومصالحهم، والوقوف على مقاصد الشريعة واصولها، ومحاولة جعل الفتوى مأصلة التأصيل الشرعي، ولا تصدر إلا عن لجنة، ويتم تثبيتها وتأريخها وترقيمها ومراجعتها، ويتم مراعاة التخصص في إصدار الفتوى، فهناك من هو مختص في المعاملات ومن هو مختص في العبادات، وهناك مراجعة وضبط، وهذا ما يجعل هامش الخطأ والمراجعة قليل، بل أن الفتاوى التي تصدرها الدائرة اصبحت موضع قبول وثقة اسلاميا وعالميا، ونحن لدينا مثل هؤلاء ونلجأ لبعض حديثي العلم او الخبرة، او من يرى اليوم رأيا ويغيره غدا، ويتحمل وزر ذلك غيره من البشر.
وهنا اجدني مؤيدا بشدة للرأي الذي ذهب إليه الغزالي المحدث، بضرورة وجود مجامع فقهية على قدر من العلم والأهلية، والشهادة لهم بحسن السيرة والسمعة، وعدم الإعتماد على الفرد في اصدار الفتوى، فقد ردت امرأة فتوى لعمر رضي الله عنه وهو الملهم، واخطأ بعض الصحابة رضوان عليهم ممن شهد لهم بالخيرية، ولكنها برأيي رسالة إلى الأمة بأنها أمة الجماعة ولا تصدر إلا عن جماعة، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا الرسول صل الله عليه وسلم.
وهذا ما اجدني أتبناه في هذه المسألة .
ابراهيم ابو حويله