الأنباط -
الحرب على غزة انتجت آلاف القنابل البشرية للأجيال الفلسطينية الغاضبة
بقلم: عيسى قراقع
الذكريات لا تنام، الجروح غائرة في العقل والوجدان، الجسد الخارج من الحرب هو الواقع الذي يتشكل فيما بعد، هذا الواقع يتتبع خطوات الموت لتكوين حاضنة الحياة بلا موت، والغضب الإنساني أيضا لا ينام، الغضب ينمو في الخلايا العصبية وفي قلب المكان، يستيقظ في ركام البيت او عند شواهد المقبرة.
في الحرب الأكثر دموية وفظاعة على قطاع غزة، تركت أماكن فارغة وغائرة، مسحت ذكريات وأماكن تهشمت وابتسامات تلاشت واختفت لكنها تخزنت في قاع الذاكرة، تعود حتما بصياغة جديدة لتروي الماضي بأدوات الحاضر الحادة، وتكون نقطة تحول في الأفكار والمعاني والطبيعة النفسية للأجيال الفلسطينية الغاضبة.
لن تنته الحرب حتى لو سكتت الصواريخ والقذائف، المشاهد الصدمية، الكوابيس، الفقدان، التشرد، التعذيب، التجويع، الاذلال، الأجساد الممزقة والمنعوفة، الوجوه والشوارع، الأصدقاء والاحباء، الجيران والمفقودين والمعتقلين، أصوات القنابل والطائرات والموت الذي يحصد الناس، الموت الذي يمنعك من النسيان عندما كنت على حافة الفناء والعدم، كل ذلك لن يغادر رأسك ووعيك وروايتك وتكوينك، ستخرج في لحظة من تحت ركام اللاوعي، فالذكريات الأليمة هي اكبر محرك لصناعة التاريخ والمقاومة وولادة الانسان.
حتى لو تحولت غزة الى كومة من غبار، ومكان لا يصلح للعيش الادمي، لن يحظى المستعمرون بالحسم او النصر المطلق كما يعتقدون، فليس كل ما يزول يزول، وليس كل ما يختفي يختفي، لقد تركت هذه الحرب البشعة موروثات من نار وجثث وحسرات ووجع للأجيال الفلسطينية التي ستنتفض الامها بكل ما فيها من صور واحداث، وما تذوقته من عذاب واهوال وجوع وبرد ونزوح، لتصبح غزة اكبر حاضنة ومحفز لمواجهات على مدار كل السنوات الاتية، لن تختفي غزة من البيت والمدرسة والكتاب والشارع والاغنية، ستطل من كل شباك، وتظهر من وقت الى اخر، وكلما اطل جسد شهيد في الاذهان، او تحرك القيد في ايادي المعتقلين، او كلما هدرت الطائرات واشتعلت الادمغة.
لن يشفى الشعب الخاضع للهيمنة والاحتلال، والذي مورس على جسده وروحه كل اشكال الجرائم والقهر والظلم والسلب والاغتصاب، الا باستعادة انسانيته وكرامته، وإزالة الخراب الذي حل في كينونته بالانتصار على الخوف والاحتلال، عندها يتعافى الجسد والوطن والروح والهوية، ويظهر بوضوح لون السماء.
الحرب على غزة انتجت الاف القنابل البشرية للأجيال الفلسطينية القادمة، هناك ثورة عارمة لم يتنبأ بها السياسيون والمحللون الذين يظنون ان رسم السياسة ينبع من شظايا القنبلة، هناك في الأفق قوة تطهير أخرى متمردة على وحشية الاحتلال ودمويته وساديته، القوة الإنسانية العظمى للضحايا عندما ينهضون لاستعادة حيواتهم من قلب الفاجعة.
الحرب الهمجية على قطاع غزة انتجت صرخات وصرخات لم يخفيها الكلام يوما او ظلام المجازر والمقبرة، نحن لازلنا نتحدث بعد الممات منصتين بصمت الى صدى اصواتنا، نحمل منازلنا في قلوبنا ونبني متاريس البقاء في نفوسنا، الحرب تطلق النار على نفسها، تعيد تعريف الحياة.
الحرب على غزة اسقطت القناع عن المستعمرة، لم تعد امنة على مستوطنيها المرعوبين، تكشفت نوازع الشر والكراهية والعنصرية، عصابات منحطة في المدينة، مجرمون وشاذون ومنهارون ومصروعون، ويزدادون انتقاما وعربدة لان غزة لازالت تتنفس برئة واحدة من رفح حتى جنين، رافضة ان تموت.
ومن الجلد حتى العظم لازلنا في ارضنا، ننصهر روحا وثقافة في غمار المعركة، وقد اخترنا الحرية على العبودية والمساومة، ونحن الذين عرفنا بواسطة اغلالنا وجراحنا طريقنا الى القدس والناصرة، لن نبقى مذعورين تحت بساطير المستعمرين، الموت يتوحد بالحرية، والموت الحر هو ان تكون انسانا حرا، فمن يعش وسط الحديد والنار ينتفض في وجه تلك القوى التي تنكر وجوده وكيانه وتتعامل معه كحيوان بشري، انها حمم من الغضب كأني اراها تنطلق من أعماق النفس كالبركان.
مهما كان شكل اليوم الاتي بعد الحرب، الرماد لازال ساخنا في العقول، الرماد يشتعل والاجساد لن تتحلل كما يتصورون، سرعان ما يستعيد الناس ملامحهم ويلملمون اراوحهم من تحت الأنقاض، وسرعان ما يعودون من جحيم الإبادة، لن ترجع الأمور الى سابق عهدها، الموتى الان يقاتلون، كل شيء تغير، زلزال هز كل اركان دولة الاحتلال، زعزع عقيدتها الأمنية وغطرستها واساطيرها، اخترق الفلسطيني سياج الوهم والانتظار، اليوم الاتي هو للفلسطينيين فقط مهما كانت النتائج العسكرية، لقد قاتلنا حتى نتحرر ونحرر الاحتلال الى الابد من دمنا، حصان هذا الدم يصهل في وعينا واضلعنا، ويركض الى اعلى الكلام.
كيف يتملص جنرالات الإبادة من اشباحنا؟ تطاردهم في كل مكان، حكاياتنا واشواقنا وجمالنا الإنساني الذي شوهته الحرب، ان لم نلتق معهم في قاعة المحكمة الدولية مكبلين ومتهمين بجرائم الإبادة، سنلتقي معهم في الساحات والكلمات والمظاهرات والمفترقات، جثث تمتص موتها وتعلن الحياة على ارضنا ثورة وعبادة.
اليوم الاتي بعد الحرب هو للفلسطينيين فقط قرارا وسيادة، مخاض لاجيال تكسر المعادلة، زنزانة تهدم زنزانة، حجر يسند حجرا، حلم سنحمله فوق اكتافنا، فللحرب أحلام تجريها الرياح فوق اجسادنا الان وغدا، رياح المذبوحين والمحروقين، رائحة الأرض والتاريخ، والورد في دمنا يعرف مفتاح الباب الذي لم تغلقه النكبات على احبابنا.
الحرب على قطاع غزة انتحت الاف القنابل البشرية للأجيال الفلسطينية الغاضبة، وستبقى معضلة المستعمرين ليس مع الحاضر المحاصر بالموت، وانما مع الموت الذي لا يموت في الموت وهو يبحث عن المستقبل، وكما قال درويش، ذهب الموت الى البحر وظل البحر ازرق، فالحرب على غزة أعطت مزيدا من الاعمار التي خرجت من تحت التراب لتعود الى نفسها وجسدها وتكبر ثم تكبر، والحرب على غزة كشفت هشاشة الكيان الصهيوني الذي بنى وجوده على الحرب حتى ابتلعته الحرب.
كل فلسطيني اصبح له قضية شخصية مع العصابات الصهيونية، كل هؤلاء المبادين والمعتقلين والمعدومين والمشردين والجرحى والمعاقين والهائمين على وجوههم وسط اللهيب والطوابير، سيفجرون تلك القوة الأخلاقية للضعفاء الذين استعصى ضعفهم على التلاشي والمقايضة، لم ير الفاشيون ان الأجساد عندما تموت تبقى الأرواح سارية في الحيز والثقافة والأفكار والاحاسيس، وفي الولادات والتجارب والخبرات والطاقات، فالهدوء ان جرى على الأرض لن يكون في النفوس، ولا احد يشتري الموت بالهدوء والصفر.
الحرب على غزة انتجت الاف القنابل البشرية من الأجيال الفلسطينية الغاضبة، لسان حالها يقول: علمتنا الحرب على غزة ان الحقوق تؤخذ باليد، وباليد فقط، المظلة الدولية كانت غطاء ناعما لاستمرار الاضطهاد، ومادامت الشرعية الدولية بلا مخالب، فالنحفر ارض اجسادنا باظافرنا ونحفر الرمل لنقتلع القهر والابرتهايد، هكذا يرانا الجميع جيدا، ونرى دولة المافيا الصهيونية على قائمة العار في الأمم المتحدة، وهكذا تتغير القناعات والاراء ويتم عولمة القضية، وهكذا يجفل منا الأعداء قبل الأصدقاء.
عندما يبدأ السلام سنفتح التوابيت، نخرج جماجمنا وفؤوسنا ووصايانا ونوزع جسومنا على ارض فلسطين، من البحر الى النهر الى اخر طير يمارس الحرية في فضاء النقب حتى فضاء الجليل، وعندما يبدأ السلام نكون قد عدنا مرة ثانية من الموت، نقلب موتنا لنجدد حياتنا مصقولة بفولاذ الحب والرفض ورقصة الشهيد الأخير.
لم يبق لنا غير النزول من جهنم والسير خارج مدار الشظايا، ذخيرتنا الحريق المشتعل في داخلنا، وعلينا ان نطفئ المدى وننزع السيف من يد التوراة ومن لحمنا، نأخذ من النسيان ذاكرة الرصاص لنكون كل صوت مضى، الصوت الذي يضيء وفاء للأرض والنشيد.
غدا سنحصي قتلانا اسما اسما، شجرة شجرة، طفلا طفلا، امرأة امرأة، وغدا سنقرأ القصائد التي احترقت مرة أخرى، ونفتح قلب غزة لكل النبضات والزغاريد والاسئلة، مئذنة نبنيها من جثثنا كالصلاة عالية عالية في الدعاء، وكنيسة تجمع اشواقنا بين الأسير وسرب الحمام والانبياء، وغدا نبني وطنا من سياج عظامنا وندخل البيت ذات البيت، نعرف طريق العودة الى قرانا ومدننا، تدلنا الشمس واصوات الشهداء.