الأنباط -
لم يعد خافياً في عالم اليوم أنَّ المهارات تسبق الشهادات، وأنَّ التعليم لم ولن يعود كما كان عليه، بل إنَّ طرق التعليم التي تنتهجها كثير من الدول اليوم مصيرها مصير الكتاتيب التي اختفى أثرها منذ منتصف القرن الماضي. العالم اليوم يتوجَّه وبسرعة فائقة نحو ثورة معرفية معلوماتية تقنية جديدة محددها الرئيس الذكاء الاصطناعي، وهندسة البيانات، وفضاء المعلومات. تأهيل الجيل الجديد، بل وتأهيل القوى العاملة القائمة، لم يعد من ترف العيش.
شهادات العصر الحالي، والعقد المقبل، هي شهادات المهارات المتعلقة بتصميم وهندسة وتوظيف وتشغيل البيانات. الثورة الصناعية المقبلة هي ثورة توظيف البيانات الكبرى. أمّا الطرق المطلوبة للتأهُّل لها، ولتوظيف الشباب المقبل على سوق العمل والاحتفاظ بالوظائف، فهي طرق تتعلَّق بالتسلُّح بمهارات ثلاث: اللغات الحديثة، وخاصة الإنجليزية والصينية، والقدرات الرقمية، عبر تطوير القدرات في مجالات الرياضيات والفيزياء، وأخيراً مهارات الاتصال والتواصل من خلال قنوات التواصل الرقمي المتقدِّم التي يشكِّل الذكاء الاصطناعي محرِّكها الأساس.
الذكاء الاصطناعي بدأ يغزو كافة مجالات العمل والتصنيع، وهو في طريقه إلى الاستحواذ على ما يقرب من 15% من توليد الدخل العالمي، من قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات. الدراسات الحديثة تشير إلى أنَّ الحكومات في العالم عليها أن تركِّز على قضيتين أساسيتين لخدمة دافعي الضرائب بشكل عادل؛ الأولى إعادة النظر كلياً بطرق التعليم ومناهجه ومن يقوم به، والبنى التحتية والفوقية للتعليم، بما في ذلك الاعتماد على التعليم المزجي بين الحضور وعبر قنوات الاتصال. والأهم ضرورة إحداث ثورة حقيقية، ليس فقط في المناهج، بل في مكتسبات التعليم من المهارات الحقيقية الرقمية.
أمّا التعليم التقليدي، أو التلقيني، والمناهج القائمة فلا تصلح اليوم للدخول إلى العقد المقبل من هذه الألفية، وكل من سيتخرّج من منهجيات التعليم الحالية هو ضمن طابور البطالة، أو العمل المتعب غير المنتج ولا النافع، أو الاستقطاب، وليس له مخرج إلا عبر التطوير الذاتي.
وكل من يعتقد أنَّ التعليم والتدريب المهني التقليدي هم مخرج فهو واهمٌ؛ لأنَّ الذكاء الاصطناعي بات يؤدي اليوم معظم الوظائف المهنية التقليدية، حتى قيادة المركبات وتصليحها، وصيانة المنازل، والبناء، وصيانة وتصليح وتأهيل الآلات والمعدات والأجهزة، وكثير من الوظائف الأخرى، وتطوره في المجال المهني، أكبر بكثير ممّا نعتقد ونتصوَّر. أمّا الوظيفة الثانية لحكومات المستقبل فهي في مجال الموارد البشرية، وتشمل العمل فوراً على برامج إعادة تأهيل القوى العاملة الحالية لغايات تمكِّنها من القيام بوظائفها الحالية، أو البقاء فيها وضمنها.
الدراسات العالمية تشير إلى أنه بحلول عام 2027، سيحتاج ما يقرب من 40% من القائمين على الوظائف الحالية إلى إعادة تأهيل، وأنَّ 75% من وظائف الشركات والمؤسَّسات سيدخل عليها الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الثلاث المقبلة. في حين تشير دراسات أخرى إلى أنَّ نحو 27%-30% من العمل في أوروبا والولايات المتحدة سيتحوَّل كلياً إلى التقنيات بحلول عام 2030. الشاهد ممّا سبق جميعه أنَّ المنطقة العربية، التي مازال فيها ما يقرب من 37% من السكان تحت سن الخامسة عشرة، وأنَّ نحو 50% من السكان من فئات الشباب تحت السن 24% لديها فرصة كبيرة إن تحوَّلت كلياً نحو مهارات التعليم والتعلم الجديدة، في حين أنها قد تواجه أزمة حقيقية إن لم تستغل تلك الفرصة وأصرَّت على طرق التعليم التقليدي التلقيني البائدة.
حكومات المستقبل عليها عبء العمل لخدمة دافعي الضرائب، ليس عبر ما اعتادت عليه من وظائف تقليدية، ولكن بما ستقدِّمه منذ اليوم من تأهيل ومهارات متقدِّمة عبر تحويل التعليم، بمدارسه ومدرِّسيه وأجهزته وقوانينه وكيفياته، إلى التعليم المهاري المتقدِّم القائم على اكتساب المهارات وليس اغتنام الشهادات
شاركها.