الدكتور جمال المصري
منذ اليوم الرابع والعشرين من الشهر الماضي وكل اللبنانيين؛ مواطنين وفرقاء سياسيين وناشطين، يترقبون المباحثات التي كانت تجري افتراضيا بين بعثة من صندوق النقد الدولي، بقيادة اراميريز ريغو، مع السلطات اللبنانية حول إطار وسياسات لبرنامج إصلاح اقتصادي يمكن أن يدعمه صندوق النقد الدولي.
ربما أن نتائج المناقشات التي تواصلت على مدى تسعة عشر يوما وأحيطت بكثير من السرية قد لا تلتقي وأمال الكثيرين بالنجاح في إنجاز اتفاق مع الصندوق تأخر طويلا لكونه الملجأ والمدخل الوحيدين لتجاوز المنعطف الخطير والأزمة التي تمر بها لبنان منذ بداية عام 2020 حتى يومنا هذا. فقد أصدر رئيس البعثة بيانا اليوم الجمعة ليعلن فيه اختتام هذه المناقشات، ويكفي من قراءة عنوان البيان معرفة أن المباحثات قد باءت بالفشل مجددا رغم اللغة الدبلوماسية التي صيغ بها البيان.
حرص البيان على التذكير بأن الطبيعة المعقدة وغير المسبوقة للأزمة اللبنانية تتطلب برنامج إصلاح اقتصادي ومالي شامل لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، ومعالجة التحديات العميقة الجذور، وإرساء الأساس لنمو مستدام وقوي. وهو برنامج يفترض أن يكون طويلا نسبيا ويتطلب الحصول على قبول واسع النطاق به أمرًا أساسيًا لتنفيذه في الوقت المناسب وبشكل حاسم. في الوقت نفسه، وهو ما يحتاج إلى إجراءات قوية مسبقة وضرورية لبدء قلب المسار الاقتصادي وإعادة بناء الثقة.
أشار البيان الصادر إلى إجراءات مستهدفة ومحددة زمنياً ضمن ركائز خمسة يجب أن يتضمنها البرنامج الاقتصادي اللبناني وحددها؛ بدءا بالإصلاحات المالية التي لا تضمن القدرة على تحمل الديون وحسب ولكن أيضًا مساحة ضامنة للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي وجهود إعادة الإعمار؛ فإعادة هيكلة القطاع المالي لتقوية الثقة ودعم الانتعاش؛ ثم إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة، وخاصة قطاع الطاقة لتقديم خدمات أفضل دون استنزاف الموارد العامة؛ وتعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لتعزيز الشفافية والمساءلة؛ بينما الركيزة الخامسة تتمثل بضرورة إيجاد نظام نقدي وسعر صرف موثوقين.
رغم أن البيان لم يأتي على التفاصيل الدقيقة لتلك الإجراءات والمرتكزات وقدمها كعناوين عريضة إلى حد ما، إلا أنها يمكن أن تشي بنقاط الخلاف التي قد تكون قد أدت إلى عدم الاتفاق والتي بإمكان أي متابع توقعها كونها لم تعد تخفى على أحد. لذلك حرص رئيس بعثة الصندوق على القول بأن تقدما قد تم إحرازه خلال عمل البعثة بخصوص ضرورة مجالات الإصلاح المطلوبة التي بينها البيان على الرغم من الحاجة إلى مزيد من العمل لترجمتها إلى سياسات ملموسة، وبأنه كان هناك فهم أوضح للحجم غير المسبوق لخسائر القطاع المالي التي يجب معالجتها بشفافية بما يتفق مع التسلسل الهرمي للمطالبات مع حماية صغار المودعين، على النحو المتوخى بالفعل من قبل السلطات اللبنانية ورأى بان تقدم ميزانية الطوارئ لعام 2022 فرصة للبدء في معالجة الوضع المالي الصعب مع مراعاة قيود التمويل.
ولم يغفل البيان عن تقديم وجهة نظر الصندوق بأهمية وضع استراتيجية مالية متوسطة الأجل تسمح للحكومة بالاستثمار في الإنفاق الاجتماعي الضروري للغاية لدعم الشعب اللبناني - وتمكين جهود إعادة الإعمار - مع الحفاظ على استمرارية الديون، وأعتبر أن خطط السلطات لتعزيز المنافسة والبدء في معالجة مشاكل قطاع الطاقة بداية واعدة، على الرغم من الحاجة إلى التسلسل الدقيق والتنفيذ القوي، وأن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة من قبل السلطات لمعالجة مشكلة الفساد العميقة الجذور وتعزيز الشفافية، خصوصا من خلال تسريع إطلاق لجنة المشتريات ورفع قانون السرية المصرفية أو تعديله بما يتماشى مع أفضل الممارسات الدولية. وترك الصندوق الباب مواربا من خلال إبداء استعداد بعثته لمساعدة السلطات على صياغة برنامج إصلاح يمكنه معالجة التحديات الاقتصادية والمالية في لبنان وأن الفريق سيظل منخرطًا عن كثب، وسيواصل المناقشات بشكل مستمر.
اعتقدت كما كثير من المتابعين والمحللين قبل عشرين يوما مع بداية جولة المباحثات بأن النجاح في الوصول إلى اتفاق مع الصندوق قد يشكل فرصة أخيره ومصيرية لا ينبغي إضاعتها كما في المرات السابقة لاعتبار واقعي لا يمكن تناسيه أو تجاهله. فأي متخصص في الاقتصاد والمالية الدولية يعلم علم اليقين أنه بدون وجود اتفاق نشط مع الصندوق فإنه لا يمكن حل مشكلة متأخرات الديون والوصول إلى أي اتفاق مع الدائنين بعد التوقف عن سداد الديون في فبراير 2020 - وهي أكبر خطيئة قد يكون قد اقترفها لبنان بحق نفسه - ولا في الحصول على دعم المجتمع الدولي من مساعدات وقروض ميسرة؛ حتى من أعز الأصدقاء، ولا يساعد في استعادة الثقة والشعور بالأمان اللازمة لعودة التحويلات المالية إلى لبنان من أبنائه المغتربين إلى سابق عهدها؛ وهي التي كانت تعتبر أكبر مصدر للدخل في ميزان المدفوعات اللبناني.
لكن ذلك لن يتحقق دون فصل السياسي عن الاقتصادي وتجاوز النظرة السلبية للصندوق التي يقدمها البعض كذريعة لرفض التعامل مع الصندوق رغم وجاهة وجهة النظر هذه والتي نتفق معها في كثير من الجوانب، لكن وما أن أصبحت شهادة الصندوق متطلبا لحل كل المشاكل الأخرى المترابطة والتي لا يمكن تجاوزها، فإن اجتراع السم بالاتفاق على برنامج مع الصندوق أصبح ضروريا بل فرضا واجبا لمغادرة مربع الجمود ومداواة كثير العلل والاسقام التي يعاني منها لبنان اليوم وغدا؛ وكل ما يمكن فعله هو تحسين شروط الاتفاق بالقدر الممكن والمستطاع.
وعليّ استذكر هنا قول الشاعر " أدوس على الأفعى فتلدغني ولكن بعض السم منها يشفيني"، مع كل أمنيات الخير للبنان العزيز وأهله.