د. رائد سامي العدوان
قديما قالت العرب: "لكل زمان دولة ورجال"! مقولة تدلّ على عمق إدراكهم لسنن الحياة وما يطبعها من تبدل وتحوّل، وحاجة دائمة إلى تطوير الأفكار والنظريات، إضافة لتحديث الهياكل والأدوات، ناهيك عن تغيير الرجال والقيادات، حتى تستجيب للمتغيرات والمستجدات. ولو نظرنا في كل مكان، وحتى دون الاستعانة بعالم الاجتماع الفذّ "عبد الرحمن بن خلدون"، سنكتشف ترجمة ما سبق في حقيقة أن الدول التي قاومت التغيير أو عجزت عن التكيّف مع مجريات الزمن.. قد انهارت!
نسوق هذه البديهيات كمدخل لعرض ما نود طرحه في السطور القادمة، مساهمة فيما نعيشه من نقاش حيوي وضروري حول مستقبل البلاد والعباد، والذي دشنه بجرأة مشهودة سيدنا جلالة الملك عبد الله الثاني أطال الله عمره، سواء في أوراقه النقاشية، أو كتاب تكليفه للجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، أو ما تلاهما من نقاشات مع مختلف النخب والفاعلين، وآخرها ما قاله لأبنائه الشباب وقبلهم نساء الأردن وأعيانه.
بداية، دعونا نتفق على ما يبدو لي ولكثيرين غيري بديهية: لا يمكن إدارة المئوية الثانية للأردن، بنفس الأدوات والنخب والأفكار التي أديرت بها مئويتنا الأولى! وقبل القفز إلى استنتاجات متسرعة، فهذا الكلام لا يعني من قريب أو بعيد أنني من دعاة "هدم" كل ما هو "قديم" بحجة عدم صلاحيته "للعصر"، فهي فكرة عدمية مدمرة تجعلنا نبدأ من الصفر مع كل نخبة جديدة أو مرحلة تختلف عن سابقتها، وهو ما عانينا طويلا من تبعاته المرهقة. ما نقوله أن كلا النهجين هما وجهان لعملة واحدة متطرفة، تقاوم إحداها أي تغيير بحجة أنه يهدد الثوابت والاستقرار الذي بنيت عليه المئوية الأولى، بينما تدفع الأخرى باتجاه التغيير الجذري بحجة التوائم مع معايير "عالمية" حديثة، لا تفهم منطق الخصوصية ولا تقبل إلا منطق القطيعة مع الماضي!
وحتى لا يتشعب النقاش، سأحاول التركيز فيما تبقى من هذا المقال حول "صناعة النخب" في الأردن، مؤجلا الحديث حول الأفكار والأدوات إلى مناسبات أخرى. من البديهي أن إدارة المجتمع والدولة الأردنيين قبل قرن من الزمان كانت محكومة بنظريات ورجالات تلك الحقبة، حيث للحكم "رجالاته" وللسلطة "أهلها"! منطق وجد ترجمته في حصر إدارة شؤون الدولة في النخب المتعلمة والميسورة، وتلك التي تلقت تكوينا عسكريا محترفا هنا أو هناك، ناهيك عن وجهاء العشائر والعائلات المدينية العريقة. وهكذا، لم يكن الأمر يحتاج لكثير اجتهاد أو يثير عظيم نقاش، أن تبقى إدارة شؤون الدولة محصورة في هذه الفئات، بطريقة تشكل استمرارا لما كان عليه الأمر في الدولة العثمانية وما سبقها. ومع تقدم حركة التعليم، ودخول فئات جديدة ساحة الفعل الاقتصادي، كان لزاما دخول فئات من خارج "الأرستقراطية التقليدية"، بطريقة واجهت صعوبات جمّة في البداية، قبل أن تفرض نفسها بحكم الأمر الواقع. لقد كان مجال "رجالات الدولة وإدارة شؤونها" يكاد يكون حكرا على هذه النخب، التي أحسنت أداء مهامها في كثير من الأحيان، وجنبت الأردن دفع أثمان باهظة في الكثير من اللحظات الحرجة والحساسة.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع دخول الأردن والمنطقة العربية عصر "الحداثة السياسية" المتمثل في الأحزاب، وهي التجربة الغريبة التي نجمت عن احتكاك مجتمعاتنا المباشر بالحضارة الغربية، رأينا تجارب متفاوتة التوفيق، يمكن أن يقال الكثير حول نجاحاتها وإخفاقاتها، مع الاعتراف بأنها لم تمنح الفرصة الكافية للنمو والازدهار، لأسباب يطول شرحها، ليس في الأردن فحسب، بل وفي الغالبية الساحقة من دولنا العربية، الأمر الذي جعل "الأيديولوجيا" هي ساحة معركتها الأساسية، بعد أن حرمت من فرصة أن تكون برامج إدارة الشأن العام هي ساحة فعلها الحقيقية. سمة حكمت بالمحدودية على هذه الأحزاب، اشتراكية كانت أم قومية أم إسلامية أم ليبرالية... الخ، الأمر الذي يجعلها في حاجة لإجراء مراجعات عميقة لخطابها وتركيبتها وأدواتها إن كانت تريد المساهمة في إدارة شؤون البلاد بنجاح وتوفيق في مئويتها الثانية.
ومع تعقد مجال إدارة الشأن العام، وتداخل العوامل المحلية بالخارجية، والإقليمية مع الدولية، وتعقد المشهد الاقتصادي العالمي وتعدد فاعليه، نعيش منذ بداية الألفية الثالثة ما يمكن تسميته "عصر التكنوقراط"! حيث أصبح التعليم العالي في الدول "المتقدمة" كالولايات المتحدة وأوروبا، بديلا للانتماءات التقليدية السابقة، التي كانت تؤهل صاحبها لدخول دائرة الفعل والتأثير. تجربة على الرغم من تسجيلها لنجاحات مشهودة، إلا أنها تظهر بشكل متزايد "محدوديتها" وعدم قدرتها على تعويض غياب "النخب السياسية" المتمثلة في قيادات الأحزاب ورجالات الدولة التقليديين والوجهاء المحليين. ولعل ما عاشته بلادنا مع هذه الحكومات -وليس بسببها فحسب- لخير دليل على ما نقول.
ونصل إلى "مربط الفرس" فيما نود قوله، تعقيبا على ما نشهده وشهدناه من نقاش داخل وخارج لجنة تحديث المنظومة السياسية وفي أروقة الحكومة والبرلمان، والذي نخشى أنه لم يرتق إلى مستوى اللحظة الوطنية الحساسة، المتمثلة في التأسيس لمئوية بلادنا الثانية، حيث لا تزال "لغة الإشارة" والرسائل المضمرة هي الطاغية على النقاشات اليوم بين مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي بالخصوص.
ويتمحور النقاش الحالي، في ظاهره على الأقل، حول وضع قواعد جديدة للفعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي يجعل الحديث في الهياكل والأدوات مؤجلا في انتظار وضع هذه القواعد، رغم أن عنوانها الرئيسي هو التأسيس لحياة حزبية تقوم على البرامج، وتكتسب شرعية إدارتها للشأن العام عبر صناديق اقتراع غير مطعون في نتائجها. هذا النقاش العلني ليس سوى الجزء الظاهر من المشهد، إذ تكمن في خلفية الجدل الدائر معارك جانبية وإن لم تكن أقل أهمية، تتمحور حول "نخب المرحلة المقبلة" وشكل إدارة المرحلة الانتقالية ومآلاتها المنتظرة، والأثر الحقيقي لكل هذا الجدل على فرص الأردن في التأسيس لمئوية صلبة ومتماسكة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا.
إن اجتهاد كل معسكر في "تحطيم" المعسكر المقابل ومرتكزاته، لن يقود إلا إلى دخول الأردن مئويته الجديدة بنخب مثخنة بالجراح، فاقدة للمبادرة، عاجزة عن التعاون مع بعضها، وغير متمتعة بثقة المواطنين، مع أن تجربة "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية"، وعلى الرغم من اختلاف حساسيات وانتماءات أعضائها سياسيا وحزبيا ومناطقيا، كانت شاهدة على قدرة الأردنيين على سماع بعضهم البعض، والوصول إلى تسويات وقواسم مشتركة عندما يتعلق الأمر بقضاياهم الوطنية. وحتى نسمي الأشياء بمسمياتها، نقول:
إن الطعن في القيادات التقليدية التي تستند إلى تراث عائلاتها أو ثقلها العشائري بحجة عدم جواز "التوريث السياسي"، وإن كان يصدق في بعض الحالات، فإنه لا يستقيم بالمطلق. فهذه المرتكزات التقليدية لم تمنع يوما أعتى التجارب الديمقراطية من منح ثقة جماهيرها لقيادات متوارثة، والأمثلة تستعصي على الحصر. فمن الولايات المتحدة قائدة الديمقراطية في العالم وتجربة عائلة "بوش" الأب والابن، إلى تجربة كندا الحالية التي خلف فيها الابن "جاستين ترودو" أباه "بيير ترودو" الذي حكم ما مجموعه 15 سنة على فترتين. أما في أوروبا فالتجربة اليونانية العريقة تتجاوز كثيرا ما نشهده في الدول العربية المجاورة وإن اختلفت في الآليات، وذلك مع عائلات "ميتسوتاكيس" الأب والابن، و"كرامنليس" الابن والعم، وأخيرا "باباندريو" الابن والأب والجد!! نقول ذلك لعلمنا أن أساس المشروعية هو نيل ثقة الناس، في الشخص والبرنامج، مدركين أن جاذبية الاسم أو الانتماء الأسري والعشائري لم تعد كافية لنيل مقعد نيابي أو وزاري.
أما الطعن في "التكنوقراط" باعتبار أنهم بدون ولاءات واضحة، وأنهم معزولون عن الواقع، وبدون عمق عشائري او مناطقي أو انتماء أيديولوجي واضح، فهي وإن كانت نقاط ضعف بالنسبة للبعض، فإنها بذاتها نقاط قوة هذه النخبة! حيث بدون علم وخبرة هذه الفئات، سيصعب على النخب الحزبية والتقليدية أن تدير شؤون الدولة بنجاعة وتوفيق.
أما الطعن في القيادات الحزبية بحجة أنها لم تختبر في إدارة الشأن العام، وأنها غارقة في عالم الشعارات بعيدا عن ميدان الفعل والممارسة، وأنها مغامرة بطبعها لا تحسن إدارة الدول، فمردود عليه بأنها ليست المسؤولة عن هذا الواقع، وأنها كأي كائن حي تكتسب خبرتها وصلابتها، وكذا اعتدالها وبراغماتيتها من الممارسة اليومية للشأن السياسي، بما هو ميدان تحالفات وتسويات، واضطرار إلى العمل المشترك بين حساسيات وبرامج مختلفة، فقط علينا الصبر خلال الفترة التي ستحتاجها للتمرس فيما تتصدى له من أعمال.
نسوق ما سبق لنخلص إلى أن تفرد أحد هذه النخب التقليدية بإدارة الشأن العام سيؤدي لا محالة إلى تكرار التجارب الفاشلة التي خبرناها وعرفنا نتائجها، وأن الحل يكمن لا محالة في "خلطة" متزنة بين هذه المكونات، وغيرها التي تنتظر دورها لدخول ساحة الفعل، ونقصد بها فئتي النساء والشباب، والتي يؤسفنا أن التعامل معهما حتى الآن لا يعدو أن يكون "غزلا" فارغ المضمون، وديكورا "تجميليا" كما عبر عن ذلك أحد النواب، دون محتوى حقيقي يرقى إلى ما يؤكد عليه جلالة الملك في كل مناسبة. إن عدم فتح المجال أمام النساء والشباب لتحمل المسؤولية دون وصاية، بحجة نقصان الخبرة أو القدرة، هي وصفة فشل مؤكد! أما قدرة النخب المخضرمة من رجالات الأحزاب والحكم والتكنوقراط، على إدماج هذه الفئات في إدارة الشأن العام، فهي وحدها الكفيلة باختصار وقت وجهد كبيرين على بلدنا في معارك واقعها ومستقبلها، وتؤهلها للدخول الواثق والمظفر لمئويتها الثانية.