الأنباط -
مهند العزة
مناقشة تعديلات الفصل الثاني من الدستور يوم أمس لم يكن فيها ثمة ما يفاجئ من حيث المواقف والمداخلات والمبررات التي ساقها مؤيدوا التعديلات ومعارضوها على حد سواء. فمن دافع عن التعديلات وأيّدها كانت وسيلته لإقناع المعارضين بها هي تأكيده أنها صورية وليست ذات أثر يذكر، حيث ما انفك هؤلاء يرددون أن إضافة كلمة (الأردنيات) إلى عنوان الفصل الثاني والنص على تمكين المرأة وحمايتها من التمييز في المادة السادسة؛ «ما هي إلا صياغات شكلية لا تؤثر في واقع الحال ولا تنتج حكما»، الأمر الذي تلقفه بعض المعارضين محاججين بأنه «إذا كان ذلك كذلك، فما جدوى وضعها إذن في الدستور؟ اللهمّ إلا إذا كان وراء الأكمة ما وراءها».
دفاع مؤيدوا التعديلات عن وجهة نظرهم بتسويقها على أنها من باب التأكيد والتكريم وأنها مثل آلهة قريش لا تضر ولا تنفع، يعد التفافاً غير حكيم ينطوي على إهانة للمرأة واستهانة بحقوقها، وهو من بعد مسلك غير حميد ينم إما عن نفاق سياسي واجتماعي للظهور بمظهر المتحضر المنافح عن حقوق المرأة، أو أنه ضعف وقلة حيلة –وهذا هو الأرجح- أمام وحوش المحافظين الذين ينهشون كل من يدافع عن الإنسان وحقوقه، مع عدم إغفال أصوات محترمة قليلة صرحت وأوضحت أن المقترح من تعديلات دستورية بسيطة يمثل أقل القليل مما يجب لإنصاف المرأة وتمكينها.
أما الحبايب من فلاسفة ومفكري «الوسط وما تحته»، فقد أرخوا الحزام لخيالهم وتخيلاتهم، وعاشوا الدور حتى اندمجوا فيه، فإذا بكلمة «الأردنيات» المضافة إلى عنوان الفصل الثاني من الدستور، ونص الفقرة السادسة من المادة (6) منه، تأخذانهم إلى سيناريو يبدأ بمشهد خارجي ليلي تظهر فيه البنات وقد انفلتن من طوع أسرهن وذهبن بصحبة شباب أرعن للسهر حتى مطلع الفجر، متسكعات في أزقة شارع مجمع النقابات في الشميساني وطرقات البوليفارد وشوارع عبدون. ثم تأخذهم الكاميرا إلى مشهد نهاري داخلي، حيث دار رئاسة الوزراء، وقد تحلق أعضاء الحكومة حول الطاولة وبدأوا بمناقشة أحكام المواريث والولاية والوصاية لتعديلها بما يخالف حكم الشرع. ثم التفتوا ففكروا ثم قدروا فدبّروا وتدبّروا؛ فأشهروا في وجه كل من يخالفهم سيف التخوين والتمويل أو التخويف بتفكيك الأسرة وتمزيق المجتمع وإعلان حالة من العصيان وتمرد من الفتيات ضد أولياء أمورهن، وأبعد من ذلك؛ قيام الحكومة بتسهيل نشاط المثلين (لا يدري أحد كيف ولماذا وما هو الرابط أصلا)، لينتهوا من حيث انطلقوا بقراءة تلمود لعنة الخلود على سيداو التي لم يقرأها غالبيتهم، ناهيك أن يكونوا قد قرأوا أياً من التقارير الأممية أو المحلية الصادرة بخصوصها؛ فصبوا عليها اللعنات وعلى من صاغها ووقعها وصادق عليها ونشرها في الجريدة الرسمية ودعى وسعى إلى تنفيذها.
هكذا تمترست غالبية معسكر المعارضين خلف الحجة القديمة الجديدة؛ المنبعثة والعائدة إلى نمط التفكير تحت الحزام، فهم يعتقدون جازمين –وإن ادعوا خلاف ذلك مداراةً وتقيا- أن المرأة «هي الحلقة الأضعف التي يمكن أن يلج من خلالها أعداء الأمة ليهدموا ثوابتها ويعيثوا في مبادئها فسادا، خصوصاً أن الحقد الدفين والحسد اللعين يدفع دول الكوكب لترك شؤونها الداخلية وإدارة اقتصادياتها الجبارة وتطوير صناعاتها الثقيلة وإجراء أبحاثها في مجال التكنولوجيا والطب وغزو الفضاء.. للتفرغ للكيد لنا ومحاولة إغواء شبابنا وتفكيك مجتمعنا وتفتيت الأسرة. فهذه الدول الخبيثة تكاد تموت غيظاً مما لدينا من عادات وتقاليد وأعراف تكرّم المرأة وتحفظ مكانتها العلية، ويكفيك من ذلك مثلا: تخفيف عقوبة قتلة ومعنّفي بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم بإسقاط الحق الشخصي عنهم، وإيداع عدد من ضحايا العنف الأسري من النساء في مركز الإصلاح والتأهيل لأشهر وأحياناً لسنوات لحمايتها من أقاربهن الذين يتربصون بهن وينتظرونهن ليجهزوا عليهن، وكذلك شرعنة تزويج الأطفال من القاصرات حرصاً على مصلحتهن (التي لا نعرف ما هي بالضبط لكن هذه مسألة ثانوية)، هذا بخلاف ما كنا حتى وقت قريب نفيض به من إحسان على مرتكب جريمة الاغتصاب بتزويجه ضحيته ثم إعفائه من العقاب». هذا غيض من فيض مما «كرمنا به المرأة» كما ادعاه بعضهم رافعاً عقيرته مقسماً عليه بالله حانثاً غير بار. وسوف نضرب صفحاً عن كذب من قالوا «أن تكريم المرأة وجعلها قاضية ووزيرة ومديرة، إنما جاء بسبب ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا»، فإن كان هؤلاء يجهلون فذاك ليس مستغرب في جانبهم، وإن كانوا يعلمون فهم ملوك الازدواجية فلا غرابة أيضا، فتولي المرأة تلكم المواقع وتمتعها بحقوقها على نحو أفضل من ذي قبل، مرجعه الدستور والإرادة السياسية التي تجلت في مصادقة الدولة على اتفاقيات حقوق الإنسان الأساسية وعلى رأسها اتفاقية سيداو «والعياذ بالله»، إذ أن الثابت في نقولنا أن لا ولاية للمرأة في القضاء ولا في الوزارة عند جمهور أهل العلم https://rb.gy/isgldu ، فإذا قرر الذين يحاربون بسيف الحق يريدون به الباطل، أن يسلّموا بغير ذلك ويعلنوا براءتهم من هذه الآراء والفتاوى المنقولة؛ فذاك منتهى الأرب ومستدرك المنال.
كل هذا اللغط ليس مفاجئ ولا ينبغي له أن يكون، ليبقى ما يدمي القلب حقاً هو ضحالة مستوى الثقافة والمعرفة بأبسط قواعد التشريع واللغة وعرض الحجة، حيث ظهر هذا جلياً في عدد من المداخلات الركيكة المفككة، إلى حد عدم معرفة بعض المشتغلين بالقانون ما استقر عليه الفقه الدستوري في ما يخص آليات نفاذ الاتفاقيات الدولية وقوة سريانها وما تعلو عليه وما يعلوها في منظومة التشريع الوطني، لتستمر الكارثة في عدم استطاعت عدد كبير من اللمتداخلين معرفة الأسماء الصحيحة لعدد من اتفاقيات حقوق الإنسان الأساسية وكيفية نطقها بشكل صحيح والتواريخ الصحيحة لصدورها ومصادقتنا عليها، ناهيك عمّا أثير من نعي على المحتجين ببعض آيات القرآن الكريم التي تفرد التأنيث والتذكير بأنه «استدلال في غير محله» بطريقة التجهيل المعهودة، دون بيان كيف ولماذا. أما ما ارتكب من مجازر بحق اللغة العربية؛ هدمت فيها قواعد النحو والصرف، وسفكت فيها حروف الكلمات فسالت مسفوحةً في أروقة القاعة، ورفع المجرور من شعره ونصب المرفوع على قارعة الطريق.. وكذلك ما ارتكب من انتهاكات بحق اللغة الإنجليزية مبنى ومعنى، وما ادعي على عدد من التشريعات الأجنبية التي استغاثت من هول ما تقوّله البعض عليها.. فإننا نبرأ منه كما برئ المعارضون من تعديلات الفصل الثاني من الدستور وسيداو.
باستثناء قلة قليلة صادقة في تأييدها ومدافعتها، فإن تصور أن هناك فريقان مختلفان حول تعديلات الفصل الثاني من الدستور يؤيد أحدهما حقوق المرأة في حين يعارضها الآخر ، يبدو غير دقيق، إذ أن كلا الفريقين توافقا على التهوين من قضايا المرأة وحقوقها، وذلك إما برفض التعديل بالجملة والتفصيل أو بإظهاره وتسويقه على أنه بضاعة للتلميع والتجميل.