الأنباط -
قراءة التاريخ ، عامة، ومذكرات السياسيين ، خاصة، لها وقعها عندما نقارن اليوم بالبارحة، لعلنا نستفيد مما جرى ونحن نتطلع لمستقبل نرجو فيه الخير .
ومن هذه السير " مذكرات " الشهيد هزاع المجالي ، رحمه الله ، التي نشرت العام 1960 بما فيها من ذكريات جميلة وحكم سياسية هامة تؤشر على مدى الحياة السياسية التي كانت سائدة في البلاد خاصة مرحلة الخمسينيات.
ومن غرائب الأمور أن الشهيد هزاع يذكر في مقدمة المذكرات التي كتبها قبل استشهاده انه لا يعرف لماذا خطرت بباله كتابة مذكراته وهو في بداية الأربعينيات وكأنه يتنبأ باستشهاده ويريد ترك آرائه وذكريات حياته الخاصة والعامة للأجيال اللاحقة من الأردنيين.
لن أتوقف عند الجانب الحياتي الشخصي للشهيد هزاع وذكريات طفولته عند أخواله في مادبا ومسيرة حياته الجامعية في دمشق والعملية كمحام ناجح بل سأتوقف عند الجانب السياسي للمذكرات التي تصف الأوضاع السياسية في البلاد.
فهو يتحدث عن وضع الحكومات الأردنية وخاصة حكومات توفيق أبو الهدى وفوزي الملقي وسعيد المفتي وسليمان النابلسي والاختلافات التي كانت سائدة بين الرؤساء في ذلك الزمن. وكيفية تشكيل الحكومات وكيف كان السياسيون يتحولون من الموالاة إلى المعارضة بتغيير رؤساء الحكومات إضافة إلى أن حل البرلمان كان لأسباب واهية ومنها معرفة احد رؤساء الحكومات بأن عدد حاجبي الثقة عن حكومته سيكون مرتفعا فبادر قبل ساعات من التصويت على الثقة إلى حل البرلمان.
يقول هزاع المجالي في مذكراته «مساكين هؤلاء الذين يكتب لهم أن يكونوا رؤساء وزارات إنهم كالضرائر يُضمرون الكيد لبعضهم ويطوون قلوبهم على سوء ويتظاهرون أمام الناس بالصداقة، ويقومون بعضهم لبعض بكل مجاملة وقد كتب لي أن أكون واحدا من هؤلاء غير أنني والحمد لله لم اسلك مثل الذي وصفت عندهم من سلوك».
وفي صفحة أخرى يكتب الشهيد المجالي عن معارضته لتوفيق أبو الهدى بقوله «إن المعارضة التي تكن أعمق الولاء للعرش المفدى وتتمسك بوحدة الأمة ومحاربة الذين يكيدون لهذه الوحدة كانت تطالب بإقالة أبو الهدى وإلغاء القوانين الاستثنائية ومقاومة الغلاء والبطالة وتطهير الجهاز الإداري». وهو هنا يؤكد أن المعارضة هي في جوهرها لرئيس الحكومة أبو الهدى وأنها تدين بالولاء للعرش لذلك لم ير أي تعارض كونه وزيرا سابقا يعارض حكومة أبو الهدى.
أما عن النواب فيقول إن بعض النواب الموالين للحكومة استغلوا حاجة الحكومة لهم .." فانتهزوها فرصة للإثراء على حساب الأمة واستغلوا الموقف ففرضوا إرادتهم على الوزارات والدوائر الحكومية فكانت " حبوب الإقراض" تمنح لهم المرة تلو المرة وذهب الجشع ببعضهم أن طالب بتراكتورات وحتى بأعطيات مالية" .
ويضيف قائلا " ولكم حدثني بعض هؤلاء النواب عن استجابة الحكومة لطلباتهم وقضاء مصالحهم حتى لقد جاهروني بأنهم يتمنون أن نطلب طرح الثقة بالحكومة مرارا وتكرارا حتى تتكرر الأعطيات والمنح" .
أما عن تأليفه الحكومة خلفا لحكومة المفتي في ظل المباحثات مع تمبلر حول حلف بغداد فيقول ..." الفتُّ حكومتي وتلقيت يوم تأليفها وفي اليوم التالي الآلاف من برقيات التهنئة ولم يبدر في هذين اليومين ما يشير إلى قيام مظاهرات ولكن محطة (إذاعة صوت العرب) شنت حملة من الادعاءات بقيام مظاهرات وسقوط قتلى وجرحى في عمان وسواها من المدن الأردنية. والواقع أن ذلك لم يحدث غير انه أخذ بالحدوث بعد إذاعة مزاعم أو بالأحرى " تمنيات صوت العرب" ..فتحركت المظاهرات من كل ناحية وكانت قوية وكأنما كان إيذان " صوت العرب " بها علامة ببدء التنفيذ ..ثم يقول انه عندما تأزم الموضوع صعد إلى القصر والتمس قبول استقالته وحل البرلمان.
وبعد استقالته يقول انه جلس في منزله يستمع إلى الإذاعات وهي تكيل له الشتائم وكيف أن المتظاهرين كانوا يهتفون بهتافات غريبة فبعضهم كان يقول " لا استقلال ولا استعمار" أو " لا جمارك بعد اليوم" .. وغيرها من الشعارات التي لا علاقة لها بالأزمة حول حلف بغداد.
وعن الأزمة التي مر بها يقول المجالي «مسكين رجل الحكم إذا وقع كثرت السكاكين وتخلى عنه أكثر أصدقائه لقد قارنت بين الأيام التي كانت المظاهرات فيها تهتف باسمي وبين هذه الأيام التي تعالت فيها الهتافات ضدي ألأني اجتهدت لخير بلدي؟ أصحيح أنني استحق هذا التهجم علي من شعب أحببته من كل قلبي وألاقي ما لاقيت من تنكر وعقوق".
ويضع المجالي يده على الجرح في تشخيصه لواقع الجهاز الاداري ويحمل التراجع للحكومات التي " درجت على مفهوم غريب لولاء الموظف فبدلا أن يكون الولاء للقانون والنظام وللدولة أرادوا ولاء لهم، ولجأت الحكومات إلى تحطيم القواعد السليمة التي يجب أن تأخذ بها في صدد التعيين والترفيع فكانت تحدث الاستثناءات وتخص بها " زلمها " ومن كان من أنصارها أو من انحاز إلى صفها المزعوم. وكثيرا ما حدث أن أقصت ، عن حقول الدوائر المرتكزة على كفاءات مشهود لها ، تلك الكفاءات لا لشيء إلا لأنها لا تأتلف وميولها وبهذا اختل ميزان العدالة ومبدأ تساوي الفرص وانكمشت ثقة المواطنين في النظام العام بل وتلاشت كليا في بعض الأحيان».
هكذا يتحدث الشهيد هزاع المجالي عن الخمسينيات من القرن المنصرم وبعض ما تحدث به ما زال حتى الآن مشكلة تعاني منها الحياة السياسية الأردنية في القرن الحادي والعشرين.