الأنباط -
أبطال الجائحة وكومبارساتها
د. مهند العزة
مع بداية الجائحة وعقب توغلها، كتبت مثل غيري عن ذاكرة الأزمات وأسلوب إدارتها وطريقة تعاطي الجهات المعنية مع كل مرحلة من مراحلها من الزاوية القانونية والسياسية، بما في ذلك ما تم اتخاذه من تدابير اتسم بعضها بالعشوائية وَوُصِم بعضها الآخر بالمخالفة القانونية والحقوقية، كما حدث حينما تم الإعلان أثناء فترة الحظر الشامل عن تنفيذ عملية عقاب جماعي خارج إطار القانون ضد عدد من الطلبة الذين تم عزلهم وقائياً في منطقة البحر الميت، حيث تم قصّ شعرهم "على الصفر” عنوةً ونشر صور لهذا الانتهاك؛ بحجة أنهم تجمعوا للدبكة والغناء أمام كرفانات العزل، هذا بخلاف استمراء عدد من المسؤولين في تلك الآونة مخاطبة الجمهور بأسلوب غير لائق وتهديده بالعقاب الجماعي وهو الذي دفع ثمن التدابير القاسية من قوْته وصحته الجسدية والنفسية، أضف إلى ذلك التلويح المننهج بفرض الحظر الشامل أو الجزئي كلما سجلت حالات جديدة لتأديب الشعب المتؤامر مع الفيروس والذي يوفر له ملاذات آمنة ليخفيه عن مسحات فرق التقصي الوبائي وأعين موظفي المعابر الحدودية.
لم تخلُ عبثية المشهد في حينها من أشباح فرقتي جورج أبيض ونجيب الريحاني المسرحيتين ممن يعيشون دور المدافعين عن حقوق الإنسان وقت الرخاء وتتلبسهم روح الحكيم الحليم وقت الشدّة، إذ سجلوا حالات من التماهي المخجل مع ممارسات وتدابير وقرارات خالفت الدستور والقانون والشرعة الدولية تحت شعار دعم المجهود الحربي لمكافحة فيروس كورونا الأب وذريته من المتحورات، ضاربين مثلاً يحتذى بل يُنتَعَل في الانحناء أمام العاصفة والهروب ساعة الآزفة، وما جلوسهم على مقاعد المتفرجين أثناء مذبحة الرأي التي ارتكبت خلال الصيف الماضي ضد عدد من أعضاء لجنة تحديث منظومة الحياة السياسية ومن دافع عنهم منا ببعيد.
الأزمات في سياقات دولنا مثل الروايات المسرحية، لها كاتب سناريو وحوار ومنتج ومخرج. فللأزمات واقع ووقائع وشخوص تلعب أدواراً مختلفة ومحددة، وفي غمرة تفاعل هذه العناصر وتداخلها، تبرز شخصيات وتتراجع أخرى، ويخرج من خلف الكواليس مجموعات من الكومبارس المغمورين غير الموهوبين يحاولون اعتلاء خشبة المسرح ويبدأون بتقديم أداء مفتعل علهم ينالون إعجاب منتج ومخرج عرض الأزمة فيظفرون بدور بطولة في المسرحية الأصلية التي نعيشها، وهذا ما يفسر ظاهرة انتشار أسراب الكومبارسات من مدعي العلم والخبرة خلال جائحة كورونا مع أنهم كانوا قبلها مجرد أسماء ممنوعة من الصرف.
في المقابل، أفرزت أزمة الوباء أزمةً أخلاقيةً عند بعض من يديرونها، إذ تلبستهم حالة من الاستبداد في الرأي واستعداء الخبراء الحقيقيين، فسادت حالة من الإقصاء لكل خبير لديه رأي مخالف ينطق بوحي من ضميره المهني خارجاً عن النص المكتوب متجاوزاً في آرائه المقرر والمطلوب، كما حدث مع بعض العلماء والأكادميين عندنا ممن تبصّروا بخبرتهم العلمية وسلامة منطقهم بصحّة أو خطأ العديد من القرارات التي تم اتخاذها ليتبين بالبرهان العملي صواب رأيهم ودقة استنتاجاتهم.
ظاهرة تغريب وتغييب الخبراء وتقريب وتغليب الدخلاء وقت الأزمات، هي ظاهرة الدول النامية التي تدير شؤونها بالعنتريات تارةً وتارةً بالبركة، ولأننا سباقون على الدوام، فقد سجلنا أرقاماً قياسيةً أثناء جائحة كورونا في إهمال توصيات ونصائح العلماء الشموليين ذوي الباع الطويل والخبرات المتعددة وفتحنا الاستديوهات والفضاء لكل عابث سبيل لمجرد أنه رئيس أو عضو لجنة صحية في أحد الأزقة أو الحارات وما دام قد نشر بوست أو تغريدة أو تحدث في ندوة.. وما دام طبعاً يحمل لقب "دكتور” حتى لو كان طبيب جراح خريج كلية جورج وسّوف أو طبيب عيون تتلمذ على يد محمد عبد الوهاب في فيلم الوردة البيضاء، فلا بأس ولا تثريب.
تابعت بفضول هذا التلميع لبعض من تسلقوا على أكتاف الفيروس وسلالاته بغرض الظهور وركوب الترند من خلال الإدلاء بأحاديث عشوائية عن الجائحة من الزاوية الوبائية وهم ليسوا أهلاً لذلك كما يبدو من اختصاصاتهم الطبية الدقيقة وخبراتهم الأكاديمية والعلمية والعملية منبتة الصلة بعلم الفيروسات والأمراض السارية ونمط العدوى وسريانها.. وكيف تتم استضافتهم على الشاشات بكثافة غير مفهومة حتى أصبحنا نراهم أكثر مما نرى أنفسنا في المرآة، ثم يطاردوننا قبل النوم وفور الاستيقاظ من خلال تطبيق نبض الذي لا يكف عن النبض ناقلاً تصريحاتهم من البرامج الصباحية والمسائية وقبل غروب الشمس ومطلع الفجر.. حتى أنه لم يعد من ملاذ للهروب منهم ولا حتى بمشاهدة برامج الطبخ التي قد نتفاجأ بهم ينوّرونها بطلعتهم البهية وأصواتهم الشجية، مرتدين المريول الأبيض واقفين بشموخ أمام الطناجر يقدمون وصفات تزيد من المناعة وترفع منسوب الشجاعة لمواجهة دلتا وأوميكرون ومن لفّ لفّهما، تماماً كما فعل خبير الشلولو بأهل مصر.
أصيب عدد من القنوات الفضائية والمواقع الإخبارية منذ بداية الجائحة بمتلازمة "كله عاجل حتى لو مش سائل”، فتجد هاشتاغ "عاجل” يتطاير من حولك بكرةً وعشيا مقروناً بعبارات هلامية رخوة من مثل: "رئيس لجنة الصحة في مركز شباب حي أم تينة واتحاد قابلات حي نايفة والزغاتيت.. نحن على أعتاب مرحلة جديدة في التعامل مع الجائحة.. على الجهات المعنية أن تستعد للأسوأ.. أوميكرون يمثل خطراً كبيراً سيغير من قواعد اللعبة..”، والمحير في هذا الهراء أنه ليس خبراً ولا تصريحاً وهو من قبل ومن بعد ليس عاجلا، وأخيراً تصاب بالدوار وأنت تدور مع هذه الكلمات المرسلة باحثاً عن معلومة جديدة أو حقيقة علمية أكيدة دون جدوى،لكن الحق يقال أن كومبرسات الأزمات يمثلون ظاهرةً فيزيائيةً تستحق الدراسة، فهم مثل الألكترون ايتواجدون في أكثر من مكان في اللحظة نفسها، ألا تراهم يتحدثون في قناتين فضائيتين وثلاث إذاعات وأربعة مواقع إخبارية وربما من على منبر مسجد في وقت واحد!
في بلدي قامات علمية وعملية متعددة الخبرات وذات نظرة شمولية تم التضييق عليها مع بداية الجائحة ثم استبعدت من المشهد تماما، لا لشيء إلا لأنها تقول ما يجب أن يكون وليس ما يطلبه المعدّون والمخرجون، فهؤلاء هم من نحتاجهم ليكونوا مرجعية القرار ومصدر المعلومة والأخبار.