الأنباط -
بقلم د.مهند العزة
نشرت بعض المواقع العربية وفي طليعتها صحيفة الشرق الأوسط ومن قبلها موقع شبكة الجزيرة الإخبارية منذ أسابيع قليلة خبراً بعنوان: "عندما يؤمن العلم بالله.. العلم يبرهن على وجود الله للمرة الأولى.. كتاب اشترك فيه 20 فيلسوفاً وعالماً يثير ضجة كبيرة في فرنسا..”، وتحت الخبر ذي العناوين متعددة الألوان التي تعيدنا إلى ذكريات زمان وبهارات جريدة شيحان، حديث عن كتاب يقع في 574 صفحة قام بتأليفه اثنان من فرنسا ليسا من الأسماء المعروفة في الأوساط العلمية أو الفلسفية؛ يناقش مسألة وجود الله ويتناولها من زاوية الدليل العلمي.
اللافت للنظر أن الخبر يبدأ بعرض لسيناريو مفبرك لا يرتقي لمستوى محاولة أولى لهاوٍ يحلم أن يصبح كاتب دراما هابطة، إذ يصور للقارئ أن الوسط العلمي والفكري في فرنسا وعموم أروبا اجتاحته موجة تسونامي فور ظهور الكتاب الذي –وفقاً للخبر- "أثاره ضجةً كبيرةً بسبب تعارضه مع الفلسفة المادية الإلحادية الطاغية في المجتمعات الغربية..”، ثم يسترسل الخبر بالنسج على هذا المنوال الذي صدأت تروسه وتسوست أخشابه واهترأت خيوطه من كثرة ما حيك عليه من أكلاشيهات منتهية الصلاحية مثل: المؤامرة الكونية ضد المؤمنين.. وفسق المجتمعات الغربية الملحدة.. وخرور العالم أو الطبيب المسيحي/اليهودي/الملحد ساجداً في قاعة مؤتمر علمي لما رآه من إعجاز في ورقة عمل أو بحث قدمه طبيب مسلم، تماماً كما خرّ سحرة فرعون ساجدين حينما رأوا عصا موسى تنقلب ثعبان مبين.
المدهش حقاً هو جرأة ناشري الخبر ومروجيه على الكذب وتزييف الحقائق وتضليل القراء، اعتماداً على تلبيتهم نداء الداعي الذي ما انفك يعزف على ناي التعميم والتغميم والتنويم، فأنى لنفوس تهدر حيواتها باحثةً عن قشة الغريق في لُجّة البقاء فيها للأكثر علماً والأجد عملاً أن تتخلى عن الجري وراء السراب بعد أن آمنت بالخرافة وكفرت بالمنطق والأسباب.
يقول الخبر المفبرك أن هذا الكتاب ألفه "ميشيل – إيف بولوريه، وهو مهندس في مجال المعلوماتية، حاصل على شهادة الدكتوراه في مجال العلوم وإدارة شؤون الأعمال من جامعة «باريس – دوفين». واوليفيه بوناسييس، خريج مدرسة البوليتكنيك”. ولا يكاد يسعفك محرك البحث في العثور على المكانة العلمية والعملية لهذين الاسمين، اللهم إلا عنوان في وكيبيديا عن ميشيل باللغة الفرنسية، ليتركك الخبر حائراً كيف لشخصيتين غير علميتين أن تقوما بتأليف كتاب يستند إلى العلم في إثبات وجود الله ويحدث هذه الضجة المزعومة؟
أما الكتاب نفسه، فما عليك إلا أن تضع في خانة التحرير على محرك غوغل عنوانه باللغة الإنجليزية: "God, Science, Evidence” لتجد هذا الرابط https://bit.ly/31D7D9n أو هذه الفقرات باللغة الفرنسية على موقع صحيفة لافيغارو https://bit.ly/31x8WX7 حيث يقدم الموقعان إيجازاً عن الكتاب الذي سرعان ما تكتشف أنه مجرد مصنف عادي يستعرض سيرة وأسماء عدد من العلماء الذين تحدثوا عن ضرورة وجود مسبب لكل حدث علمي في الكون بما في ذلك الانفجار العظيم "Big bang”، وليس ثمة تجربة أو حدث أو اكتشاف علمي جديد يتضمنه الكتاب يستحق هذه البروبغندا، والأهم أنه لم يحدث أي ضجة ولم يثير حفيظة أحد.
يمعن ناشروا الخبر ومروجوه في رش البهارات عليه حينما يقولون: "هذا الكتاب من أفضل الكتب مبيعاً في فرنسا حالياً على الرغم من ضخامته وسعره المرتفع نسبيا”، والواقع أن الكتاب ليس من بين الكتب الأكثر مبيعاً على الإطلاق وسعره هو 24 يورو، ولو كان الأمر على خلاف ذلك، فلماذا لم يتكلف مفبركوا الخبر عناء وضع أرقام وتوثيقات تبين هذا الاكتساح في البيع والاجتياح في النقاش والجدل؟
منذ أكثر من عقدين تداول عدد كبير من المسلمين -وما يزال بعضهم يفعل- خبراً فبركوه عن دخول عالم التشريح الكندي كيث مور الإسلام بطريقة درماتيكية، حيث كانت القصة تقول: أن الرجل الذي اخترع له مروجو الخبر لقب "ربّ علم الجينات” كان يشارك في مؤتمر حول العلوم الوراثية في السعودية، ثم استمع إلى ورقة عمل لطبيب مسلم شرح فيها مراحل تكوين الجنين استناداً إلى الآية (14) من سورة المؤمنون: "ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخالقين”، فما كان من مور إلا أن هبّ واقفاً معلناً إسلامه أمام الحضور، لتضج القاعة بالتكبير والتهليل وصيحات الإعجاب.
تلك هي الرواية العربية الإسلامية في حينها للخبر المزعوم، لتأتي الرواية الصحيحة على لسان مور نفسه الذي أكد أنه تعاقد مع جامعة الملك عبد العزيز السعودية في مطلع ثمانينيات القرن الماضي ليقود مشروع يربط النصوص الدينية بعلم التشريح والأجنة، ثم يقطع قول كل خطيب بتأكيده "أنه مسيحي متدين وأن هذا لا يحول دون اعتقاده أن الله كما أرسل المسيح أرسل النبي محمد عليهما السلام وغيرهما من الأنبياء” https://bit.ly/3GmcU3X وفي الاتجاه نفسه، يؤكد هذا المقال المنشور على موقع إسلامي تحت عنوان "الرجال الذين لم يسلمو أبدا” أن كيث مور وغيره ممن ادعى البعض دخولهم الإسلام لم يعتنقوا الإسلام مطلقاً وظلوا على دينهم ودين آبائهم، وينعى على جمهرة من المسلمين اللجوء إلى الزيف والتضليل بهذه الطريقة بحجة خدمة الدين والترويج له.
هذا اليتم الثقافي الذي يدفع أصحابه للبحث الدائم عن أهداب ثياب شخصية وازنة يتشبثون بها ليستشعروا في كنفها كينونتهم وتماسك هويتهم؛ يستأهل وقفةً جادةً من المعنيين بالتربية والتعليم وعلماء النفس والاجتماع وأهل الدعوة لمعالجة هذه الظاهرة التي بدلاً من أن تدفع إلى المراجعة والإصلاح تشتري الإعجاب لتبعث في نفوس فاقدي السند الثقافي الطمئنينة والارتياح.