الأنباط -
يارا بادوسي
في كل مرة يظن العالم أنه يسير نحو الاستقرار، تظهر "بجعة سوداء" لتقلب الموازين وتعيد تشكيل قواعد اللعبة بشكل مفاجئ يشير مصطلح "البجعة السوداء" إلى تلك الأحداث النادرة وغير المتوقعة، التي يصعب التنبؤ بها باستخدام النماذج التقليدية أو المعايير المعروفة، وغالبًا ما تُجبر الحكومات والمؤسسات على مراجعة سياساتها وتغيير استراتيجياتها بسرعة فائقة لمواكبة تداعيات هذه الصدمات التي تضرب الأنظمة القائمة وتحدث تغييرات جذرية فيها.
إن هذه الأحداث المفاجئة تأتي بتأثيرات ضخمة، وتضع الحكومات أمام تحديات غير متوقعة، فقد تكون تلك الأحداث مرتبطة بأزمات مالية عالمية تزعزع استقرار الأسواق، أو بجوائح تؤثر على الأنظمة الصحية، أو حتى بكوارث طبيعية تدمر البنية التحتية، وصولاً إلى الاكتشافات التكنولوجية التي تغير قواعد الاقتصاد العالمي، كل هذه الأحداث تجبر الحكومات على مواجهة واقع جديد لم يكن في الحسبان.
من أحدث الأمثلة على "البجعات السوداء" هو الصراع القائم في غزة ، والذي أدى إلى تداعيات كبيرة على المستوى الإقليمي والدولي، و تسبب في ضغوط سياسية واقتصادية، على الدول المجاورة ، والتي وجدت نفسها أمام تحديات متزايدة نتيجة تصاعد الأحداث وتأثيرها على الاقتصاد الإقليمي، وأدت أيضا إلى تراجع السياحة والتجارة بشكل ملحوظ في تلك الدول.
والحرب الروسية الأوكرانية هي مثال آخر لأحداث "البجعة السوداء"، حيث لم يتوقع العالم أن تتصاعد التوترات بين البلدين إلى صراع عسكري واسع النطاق، ولم تقتصر آثار الحرب على الدمار المحلي، بل كان لها تأثير عالمي على أسعار الطاقة والغذاء، ما أدى إلى أزمة اقتصادية عالمية غير مسبوقة، واضطرت العديد من الدول الأوروبية إلى تغيير سياساتها المتعلقة بالطاقة بشكل جذري، والاعتماد على بدائل جديدة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي.
ثم تأتي جائحة كورنا التي شكلت صدمة غير متوقعة للنظام العالمي، وامتدت آثارها على الاقتصاد العالمي بشكل لم يشهده العالم من قبل ولم تقتصر تلك الآثار على الصحة العامة فحسب، بل أجبرت الحكومات حينها على إعادة ترتيب أولوياتها والتكيف مع أزمة شاملة غير مسبوقة، ما أحدث كشف لـ نقاط ضعف أساسية في الأنظمة الصحية والاقتصادية وعانت الاقتصاديات الكبرى والصغرى من انكماشات غير مسبوقة، واضطر العديد من القطاعات إلى التكيف مع هذا الواقع الجديد وتحسين نظم الرعاية الصحية.
أما الأزمة المالية العالمية الحاصلة في عام 2008، فهي أحد أكثر الأمثلة شهرة على "البجعات السوداء"، فهذه الأزمة لم تؤد فقط إلى انهيار الأسواق المالية، بل أعادت تشكيل النظام المالي العالمي بالكامل، كما أظهرت مدى هشاشة الرقابة على المؤسسات المالية الكبرى، وأبرزت الحاجة إلى مراجعة السياسات الاقتصادية والمالية المعمول بها على مستوى العالم. وانهيار بنك "ليمان براذرز" كان بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الأزمة، ما أدى إلى اضطرابات واسعة في الاقتصاد العالمي، و اضطرت الحكومات إلى اتخاذ إجراءات جذرية لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار الشامل.
وهنا يعتبر ظهور "البجعة السوداء"، اختبار حقيقي توضع فيه الحكومات هل ستتمكن من التكيف مع المجهول، أم أنها ستنهار أمام المفاجآت؟ وعلى الرغم من أن "البجعات السوداء" تحمل في طياتها تحديات كبيرة، إلا أنها قد تمثل فرصة للحكومات لإعادة التفكير في الأنظمة القائمة وتحسينها، وتأتي بجوانب إيجابية في بعض الأحيان، حيث تدفع الحكومات إلى الابتكار وتطوير أدوات جديدة للتعامل مع الأحداث غير المتوقعة.
و يبقى مفهوم "البجعة السوداء" بمثابة تذكير دائم للحكومات بأن الاستعداد والتكيف مع المجهول هما من أهم أدوات النجاح في عالم يزداد تعقيدا وتقلبا.