الأنباط - بقلم مها صالح ـ
الله أكبر ، الحمدلله ، لا إله إلا الله ، يا الله ، الشكر لله، جميعُها عباراتٌ عربيةٌ منقوشةٌ بوحي الإيمان، منطوقةٌ بمخارج تنفُث أملاً، ومزروعةٌ بعقيدةِ كُلَّ مسلم. ومن على هذا المِنبرِ وبمناسبةِ اليوم العالمي للغةِ العربية وهو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعيةِ العامةِ في كانون الأول/ديسمبر من عام 1973 المعنِي بإدخالِ اللغةِ العربيةِ ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
أبدأ حديثي من حيث المشهد الذي لم ينته بعد ، والذي نعيشه جميعاً من على شاشاتِ التلفزيون ومن بعض ما أفرزتْهُ حربٌ غزةَ من انعطافٍ جديدٍ بسبب اللغةِ العربيةِ وبدونِ الخوض في البُعد السياسي أو الديني لهذه الحرب. اقترانُ بعضِ الأحداثِ الواقعية وارتباطها بالقرآنِ الكريم وبعضُ عباراتِ اللغةِ العربية التي ذكرْتُها في بدايةِ حديثي وما نَتَج عنه من حِراكٍ شعبيٍ وعاصفةٍ لُغويةٍ في عقولِ وأفئدةِ الغرب وأقْصِدُ الشعوبَ الحرةِ منها والذين لم يكتفوا بسماعِها وشعورهم بالراحةِ والطُمأنينةِ والسَّكينةِ على الرغم أنَهم لم يعرفوا معانيها بلْ واصلوا البحثَ والتحري والتحليلِ والتدقيقِ ومن ثم استخلاصُ النتائجِ والوصول إلى قناعاتٍ جديدةٍ وتغييرٍ جذري بالأيدولوجيات التي تعوَدوا عليها مُنذ الصغر والتي هي راسخةُ بتربيتهم ونشأتهم وحتى تَوجُهاتهم على كافة الأصعدة. اللغةُ العربيةُ بعمقِها وجمالِها وبريقِها وتأثيرِها كانت هي الجُنديُ الخفي والذي غيّر الكثيرَ من قواعدِ اللعبةِ ومن ميزان القوى والحرب الإعلامية والكلاميةِ بمعركة لم نعْهدها بهذه الوحشية.
العباراتِ التي سمِعناها طيلةَ هذه الحرب لم نقفْ عنْدها نحن العرب لأنَنا نعْرِفها ونَعِيها وتعودنا عليها بفطرتنا، لكن لم نكن نعرفُ أنها ستقع كالصاعقة في أذهان المجتمعاتِ الغربيةِ وكانت هي السببُ المباشرُ في سعْيهم وبحْثِهم عن أصل اللغةِ ومعاني تلك العبارات والتي جعلتْ من أمٍ مكلومةٍ مُثقلةٍ بالآلام من فقدانها فلذات أكباِدها أنْ تقول "الحمد لله”، ومن شابٍ جَسَدَه ممزقٌ أخْرجوه من تحت الركام أن يقول "الله أكبر”، ومن نازحٍ وجائعٍ ولاجئٍ أن يقول "يا الله”، ومن بطلٍ يأبى الاستسْلام والخضوعَ أن يقول "لا إله إلا الله”، وكيف رأيناهم مصروُن على التوجه إلى الله "بالشكرِ والحمْد” حتى وهم يَحملون جُثَثَ أطفالهم بين أيديهم. إحدى المتابعات لحرب غزة من الولايات المتحدة الأمريكية قالت إن قوةَ إيمانِ الغزيين وثَباتِهم في هذه الظروف الجحيمية كانت بدايتها إرتباطهم بالقرآنِ الكريم، إذ نشرت مقطعًا آخر أكَدت فيه أنَها مستغربةٌ جدًا لقوةِ إيمان الفلسطينيين الذين يَحْمَدون الله رُغم فَقْد كُلّ شيء، وتابعت أنَها رأتْ الناسَ تقول إنَ الفضل في ذلك يرجع إلى الإسلام والقرآن . وقد أثار هذا الفضول الكثيرين فقاموا بالبحث لمعرفة السر ، فكانت البداية من القرآن الكريم لتعرف سرَ مصدر قوةِ أهل غزة”.
أردت أنْ يكون حديثي هذا العام بمناسبةِ "اليوم العالمي للغة العربية ” ليس حديثا كلاسيكياً نمطيًا روتينيًا، بل إضاءةٍ على قوةِ لٌغتِنا العربية "لغة الضاد” وتأثيرَها على إحداثِ تغييرٍ جذريٍ وأيديولوجي ما كنَا سنعرفُ قوتُه لولا ما حدث مؤخرا في حرب غزة.
لُغتُنا العربيةِ تستحق منا الكثير في وقتٍ ساهم هذا الانفتاح الكبير على العالم من خلال منصات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي والعولمة والرقمنة بأن يُقللوا من أهميتها، وأصبح فرضاً على كل فرد بأن يتكلم اللغات الأجنبية ظناً منه بأنها الأهم من لُغتنا العربية وإحدى مظاهر الرقي والتطور، مع العلم بأنَني لا أقلل أبدا من أهمية تعلمِ اللغات الأجنبية لننقل للعالم الخارجي القضايا العربية ولنخاطبهم بلغتهم ليَعُوا ما نمر به وما وصلنا له من العلم والمعرفة وهذا ما جرى فعلاً، لكن ليس على حساب تهميش اللغةِ العربية وجعلِها في المرتبةِ الأخيرةِ على سلم أولوياتنا، بل هي الأساس التي نبني عليه كياننا وهويتنا وانفتاحنا وثقافتنا وتطورنا.
اللغةُ العربيةُ هي لغة القرآن والتي لا نستطيع فصلَهم عن بعض ، حتى الشعوبُ المسلمةُ الغير ناطقةِ بلغتنا يقرؤون القرآن الكريم باللغةِ العربيةِ والتي جعلت الكثير من الشعوب الغربية يسعون للحصول على نسخة منه بلغتهم ، وبدؤوا بملاحظة إعجاز القرآن الكريم من خلال آياتهِ وسورهِ ومعانيه والتي صَنعت فارِقاً زمنياً وكأننا نعيش زمن الفتوحاتِ الإسلامية والتي كانت الآيات القرآنية تقع على مسامعهم كالموج الهادر بما شعروا به من سلام وخشوع وإيمان لم يشعروا به طيلة حياتهم والذي أدى إلى الكثيرين منهم بأن يُشهروا إسلامهم ويَنطقوا الشهادتين باللغتين العربية والإنجليزية، وليس هذا فحسب بل شاهدتُ حتى الملحدين تغيَرت قناعاتهم وأصبح لديهم الحرصَ ليعرفوا اللغة العربية والقرآن الكريم ومدلولاته وقدرته على إحداث تغيير واسعٍ في الفكر والعقيدة والإيمان. تجلَت جماليات اللغةِ العربيةِ وقدرتها على تغيير الواقع في حرب غزة وكأنها كانت الشرارةٌ في إلهاب أفئدة الشعوب الغربية وتسَاؤلاتهم الحثيثة عنْ سر قوةِ شعب غزة ورباطة جأْشه وصبره وتحمله للألم ولوعة فراق الأحبة والجوع والعطش. كم أثّرت فينا دموعُهم عندما كانوا يتساءلون لماذا كُنا مُغيبين؟ لماذا لم نعرف عنكم إلا بوقت استشهد فيه الآلاف منكم ؟! لكن لُغتنا العربية كانت هي الجندي المجهول والمُقاتل الشرس والتي ساهمت في هذه الصحوة العالمية لقضيتنا أولا ولعروبتنا ولغتنا وديننا ثانياً.
إذا أردنا استخلاص بعض العبر مما جرى مؤخرا في غزة يجب أن نعْترف كم نحْن أقوياء بلُغتِنا العربية، كم نحن فخورون بِعُروبَتنا، كم نحن العلامةَ الفارقةَ من بين الشعوب وأصبحنا رقماً صعباً في المعادلات الحسابية التي لطالما كان العربُ فيها مُهمّشين إلى حد ما. لُغَتُنا العربية الآن أصبحت إحدى أكبر اللغات العالمية التي غيرت موازين القوى، والتي دعتْ أحرار العالمِ أجمع إلى البحث عنا ومعرفة المزيد عن ثقافتِنا ودينِنا وتراثِنا وعِلمِنا ووجب علينا الآن أن نحافظ على اللغة العربية بوتيرة أقوى من قبل من خلال تَعزيز استخدامها في جميع مناح الحياة، وابتكارُ طرقاً تعليمية جديدة للطلاب، من خلال تشكيل لجان تشرف على المناهج التربوية بحيث يُنشئ ذلك الأجيال القادمة على حُب اللغة العربية. هذا العام بالتحديد من اليوم العالمي للغة العربية سيَشهد إسدال الستاره عن الجهل بهذه اللغة وأهميتُها ومكانتُها وقوّتُها عند المجتمعات الغربية والتي لطالما نظرت إلينا بدونية بكل شيء، وأتى هذا الحراك العالمي لِينفُض الغبار عما ظنّناه سيبقى غارقًا في الجهل ليأتِ بها الله وهو اللطيف الخبير!