الجمارك : شمول السيارات الكهربائية المخزنة في سلطة العقبة بقرار تخفيض الضريبة الأردني عمر ياغي يفوز بجائزة نوابغ العرب للعلوم الطبيعية ارتفاع أسعار النفط عالميا 17 شهيدا جراء قصف الاحتلال عدة مناطق في قطاع غزة بيان صادر عن جمعية حمضيات وادي الأردن الزراعية التعاونية رواية "جبل التاج" لمصطفى القرنة بين التاريخ والجغرافيا وزير الخارجية يزور دمشق ويلتقي الشرع وعددا من المسؤولين في الإدارة الجديدة وفيات الاثنين 23-12-2024 مصدر عسكري: الأصوات التي سمعت مساء أمس في الزرقاء والمفرق ناتجة عن التعامل مع عدد من المتفجرات القديمة طقس لطيف اليوم وبارد نسبيًا غدًا يوم ثقافي لتعزيز الحوار بين الثقافات في الجامعة الأردنية للحفاظ على حدة العقل .. 8 عادات يجب توديعها عيد ميلاد الأمير علي بن الحسين اليوم أكثر من مجرد انتعاش.. شرب الماء وأثره على الصحة رئيس الوزراء يضيء شجرة عيد الميلاد في أم الجمال اليوم طفرة تجارية مرتقبة مع سوريا والاستعدادات على قدم وساق التغيرات المناخية ومدى تأثيرها على أمطار بلاد الشام هل يكفي الحد الجديد للأجور لمواجهة تحديات المعيشة؟ عزاء فتحية وسقوط نظام الاسد أحمد الضرابعة يكتب : الشارع السياسي الأردني: مقدمات ونتائج

المسافة صفر بقلم عيسى قراقع

المسافة صفر بقلم عيسى قراقع
الأنباط -
في الفلسفة يقابل الصفر فكرة العدم وهي اصعب ما يمكن تخيله، وبلغة الأرقام هو اللاشيء والفراغ، ولكن الفلسطيني الذي وصل الى نقطة الصفر، جعل بعبقريته منه طاقة تكسر الصمت، فالحقوق الثابتة والكرامة الإنسانية لا تقبل الصفر، ومن هنا تنشأ الانتفاضات والمواجهات والتضحيات والمقاومة، ولكل هذا يحتضن الفلسطيني نقطة الصفر بكل شجاعة يلتحم معه، ويشتبك معه، وكما قال الكاتب الدكتور عبد الرحيم الشيخ في مديحه للصفر: لا يقال للمواجهة مواجهة الا حين تلتقي الوجوه وتتناطح الجباه حرفيا، فتحدق في عين عدوك، تنفذ من بؤبؤه، هذه المواجهة من النقطة صفر، فهذا العدو قابلا للملاحقة وقابلا للثأر منه.
الفلسطيني اعطى مفهوما للصفر اكثر مما أعطاه الفلاسفة الكبار أمثال ارسطو وفيثاغورس واينشتاين، فقد اربك المعادلات الصهيونية باختراعه الصفر الفلسطيني في تصديه للاحتلال، فهذا الفلسطيني هو صفر في الأسطورة الصهيونية الاستعمارية، وهو غير موجود أساسا، ولكن هذا الصفر تحول الى كائن موجود وصعب، محمولا بتاريخ وزمان ومكان وحضور، انها ثورة الصفر الفلسطيني.
الصفر الفلسطيني ابطل مفعول القوة الصهيونية المتطورة والمدججة، قد انشغلت المؤسسات الصهيونية في التحليل والنقاش حول جيل فلسطيني لا يخاف ولا يهاب الموت، يصل الفلسطيني الى نقطة الصفر على الحواجز العسكرية وداخل المستوطنات وحتى في السجون، وهذا ما اوحت لي به رواية المسافة صفر للكاتبة رانيا وشحة، وهي تكتب سيرة شقيقها الشهيد فادي وشحة الذي أصيب برصاص جيش الاحتلال يوم 16-5-2021 وظل يعاني من اصابته حتى ارتقى شهيدا يوم 1-6-2021.
رأيت الشهيد فادي الذي اعدم على المدخل الشمالي لمدينة البيرة خلال المواجهات والتضامن مع الاسرى، يجلس على ركبتيه كأنه يصلي، كوفيته السمراء المرقطة دلت القناصة عليه، كان يحدق بكبرياء النسر في جنود الاحتلال الذين احاطوا به، لقد حقق الشهيد فادي تطابق في المعنى بين الدم والاغنية، بين الموقف والموقع، وفي تلك اللحظة كان دم فادي ينتفض في القدس، في الشيخ جراح وجبل صبيح وباب العامود وغزة.
وعندما تتبعت مسيرته في الرواية وهو يتمنى ان يكون له ابنا يسمى بارود، وجدته يعود اكثر من مرة من الموت الى نقطة الصفر في أي مواجهة متسلحا بحجر او بندقية او صرخة، يضع فادي عينيه في عين الموت، الالتحام جسدا وروحا، لا يرتجف، يرفع علم فلسطين فوق مستوطنة، يخوض الاضرابات عن الطعام في السجون، يقص الاسلاك ويخرج من الدائرة، يقول فادي: اردت ان احيا حياة الانسان غير المهدد بالخطر الدائم، اتوحد مع الأرض واعود للتراب، كي اخلق من جديد وارى  زوال الاحتلال، واعود حرا الى حبيبتي المنتظرة.
كيف استطاع الشهيد فادي ان يجمع كل أسباب الحياة والموت مرة واحدة، السجن سنوات وسنوات، المطارد دائما في النوم واليقظة، المشتبك دائما، المسافات بينه وبين جنود الاحتلال هي صفر، المسافات بين قلبه وقلب حبيبته صفر، المسافات بين دمه ودمه هي صفر، المسافات بينه وبين صديقه وتوأم روحه الشهيد معتز هي صفر، وظلت المسافة صفر حتى الطلقة الأخيرة.
أين فادي وشحة؟ في جامعة بيرزيت، في المظاهرة، في السجن، في سهول ووديان قرية بيرزيت، في الدنيا ام في الآخرة، لا بد من المشي الى الامام، يقول فادي، يدي ما انفكت تقبض على حجر، نحن الفلسطينيين مشاريع شهادة مؤجلة، وسوف نبقى نقاوم الى ان يحين اختطاف انفاسنا، اقتربوا اكثر واكثر حتى المسافة صفر، لا مساومة ولا مقايضة على حقوقنا العادلة، المسافة صفر في الشوارع والساحات، الموت حياة، بقعة حمراء على رأس فادي، كانت المسافة صفر بين فوهة بندقية القناص الصهيوني ورأس فادي، حينها هتف فادي: لقد امتلأت بالشهداء وقررت ان تكون مسافة الصفر مع المحتل غايتي، وصعد بدمه المقدس الى السماء.
لم ينتبه هؤلاء الغزاة الذين جعلوا المنفى اسطورة، ليعودوا الينا منفيين اكثر في لاهوتهم الطارد للبشر والحياة، كما قال شاعرنا المرحوم سميح القاسم منذ بداية البدايات: ان باستطاعة من وصفوهم بالحطابين والسقائين والمتخلفين والبدائيين ان يغنوا للفأس وللشجرة، يحملون فؤوسهم ويقلعون جذع الاحتلال، وها انا اقترب من المسافة صفر لانسف خرافة الاحتلال، يقول فادي، اسيطر عليه إنسانيا وثقافيا ووجوديا واهزمه حتى لو اطلق النار، المطلوب ان اكسر الدهشة والتردد واخلع ثوب العبد وارتدي ثوب القتال، المطلوب ابسط كثيرا من كل التحليلات والثرثرات، المطلوب هو القرار.
المسافة بيننا وبين أراضينا تبتعد، اقدامنا لم تعد تطأ الأرض، نعيش غريزيا وننسحب شيئا فشيئا امام زحف المستوطنة، هناك شيء مخيف يجرف عقولنا ويجعلنا ما دون الصفر، كأنهم حسموا ادراكنا بالقوة العنيفة تارة، وأخرى بالقوة الناعمة، لهذا اقتربوا من الموت لتكسروا هيبة الموت، يقول الشهيد فادي، فبداية الاستسلام والتراجع دائما هو الخوف، تقرير المصير ولادة صعبة وحاسمة لخلق الكينونة وحماية الهوية، هكذا تولد الشعوب وتؤسس الحضارات وهكذا يكون للتضحيات معنى وصوت وثقافة.
الوصول الى نقطة الصفر هي القدرة على تفكيك نظام السيطرة والهيمنة، ليس إدارة السيطرة، إدارة التهميش كما يفعلون، هي نقطة التوازن واحلال الفلسطيني في الرواية والمشهد الوطني وهزيمة التطبيع، هزيمة الترحيل المادي والفكري ومواجهة سياسة الانكار والابادة، الفلسطيني غير قابل للإزالة او الاستحواذ، او الطرد او العزل في تجمعات صغيرة يظهر بلا وجه وبلا صفة إنسانية.
يقتلنا الديكور في الحاضر وقبل ان يطل المستقبل، هناك مسافة باقية لم نصلها، هناك وقت حتى نجمع عظامنا ونكتب الماضي في القادم من أيامنا، لازلنا نموت امام الجدران والاسلاك الشائكة، لازلنا نموت في السجن، لا وقت للاحتفال او الاستعراض او الاستعجال في انهاء الرواية ووضع الخاتمة.
لا تضعوا الشهداء في المتاحف، يقول فادي وشحة، المتاحف قبور الذاكرة الصامتة، خذوهم الى الهواء الطلق، حينها تعرفون لماذا تتحرك اغصان الشجر، ويهطل المطر صيفا، اجعلوا للحرية قيمة عظمى وحرروها من قبضة الشعار الذي صار بديلا عن الحرية، حرروها من الالفاظ المتضخمة التي صارت بديلا عن لغة التحرير، المعركة مستمرة، ابطالنا في السجون لم يعودوا، شهداؤنا لم يعودوا، اجلوا الاحتفالات وتوزيع الاوسمة.
ولانهم لازالوا يجتمعون في دبابة، ولانهم يتمترسون خلف الأبراج والحواجز ومناظير القناصة، ولانهم لم يهزموا مخيم جنين ولا حي الياسمينة في نابلس، ولانهم كلما حان وقت الصفر انفرجت الصلاة في القدس عبادة وانتفاضة، ولان عدي التميمي لم يسقط جسدا وروحا ورصاصة، ولانهم لم يستطيعوا إيصال الاسرى في السجون الى صفر الاستسلام اخلاقيا وانسانيا حتى ضجر حارس السجن وتحرك الجدار والبوابة، ولانهم لم يكتشفوا نفق الحرية في سجن جلبوع، ولا نطفة الأسير وليد دقة والتي تحولت الى طفلة اسمها ميلاد جمالا وحياة ورشاقة، ولانهم لازالوا خائفين من كل جيل فلسطيني يعلن التمرد منذ لحظة الولادة، سيبقى هؤلاء المستعمرون سجناء المعسكر والقلق الوجودي وجنون الخرافة، هذا ما ادركه الشهيد فادي وشحة، فالحلم لا يموت ولا تنتهي ذخيرة الإرادة.
عندما زرت والدة الشهيد فادي وشحة في بلدة بيرزيت، اردت ان الملم ظلاله المنعوفة في الشوارع والحقول وفي هذه الرواية، اردت ان اسمع صوته وابحث عن ذخيرته وأراه من وراء الجبل او من الوادي او من تلك الزنزانة، او من مقعد الجامعة، قالت لي والدته: لن تجد فادي هنا، لقد عاش في الجبل اكثر مما عاش في البيت، فكم اعطاني هذا الشهيد شوقا وحبا للموت المشتهى، الموت برجولة وكرامة، وفي نبوءة ثورية مشتعلة.
© جميع الحقوق محفوظة صحيفة الأنباط 2024
تصميم و تطوير