الأنباط -
حسن حمّادي السّاعدي
في عالم قصيدة الشّاعر حميد سعيد - مقامات بغداديّة-نهايات انتقاليّة تبدو في مقاطعها المُتعدّدة الرّاكزة في النّصِّ ، يتجلّى فيها ثبات المخيال ، و يُؤرِّخ لها أن لا تُنسى ، و لها بدايات تَستحيل إلى ذكريات حُلميّة إطارُها الحُزن الشَّفيف و الفرح الجميل ،و هذا ما يَتَبَيَّنُ من قُوّة التّكوين لِلنّصِ إلى ما تلا ذلك من تَجريد و تَجديد ، و من تَعاشُق الماضي بالحاضر و التّرابط التّجزيئي بينهما ، فليستْ صياغةُ هذه القصيدة إلّا صورة حقّقتْ التّلاحم و التّباين في الحساسيّة المُرهفة داخل مخزونها الرّوحي ، و كان شاخصاً ما يُؤثّر في حساسيّتِها اللغويّة و نَغَمِها الصوتي للحرف و الجُملة الشّعرية الفائقة ، فأدرك الشاعر اليَقِظ أنّ كلّ تَطوّرٍ في إحساسِه المُتَفرَّد حيال حَيَويّة لُغة القصيدة و مؤثِّرِها النّفسيّ هو مَبعثُ موهبته منذ البداياتِ الأولى و قدرتُهُ الواهبة في تنويع الصِّياغة من جَزالة و ليونة في مناخ التّركيب المحكم ، و إنّ هذه الحساسيّة و ما يَحملُه من فكرٍ عميق يلتقيان بانسيابيّة دافقة .. من هنا تَبدأ هَرمونيّة قصيدة - مقامات بغداديّة - : احساس يَتَبَرْعمُ في حيويّة صاعدة في الألفاظ ، و عمقٌ في الأفكار ، و قدرة النّسج و تَعَدُّد الأصوات و تَآلفها .. و من شجرة هذا الكلام أستطيع أن اسْتَلَّ خيطاً حريريّاً لأقول : يقيناً أنّ هذه القصيدةالإنشاديّة المُوَشّحة بشفافية النّفس الإنسانية الشّاعرة ، إنّما هي فلسفة الشّاعر حميد سعيد في نَظريّة الحُبّ الحزين و الفرح المُدَمّى بِعثَرات المَسار الطّويل لِمكابداتِهِ في الحياة كونُها تُفصِحُ عن تَوَهُّج الموروث ، مُتَنَقّلةً بين مشاعرِهِ المُتّقدة و إرادتِه الناهضة ،و ما يَتَمَنّاه أن يكون .. ، و كأَنّه يحمل جَسَدَإنشاده فيهاإلى أبَدِ المُفارقة المحتوم .. ، و عند إمساكه بِوَهَجِ نبعة الرّيحان ، و فرط الرّمّان ، و سيّدة النُّزل حتى آخر مَقطعٍ في القصيدة ، أحسَبُ أنّهنَّ المُنشِدَ الخَفيَّ لِأَوجاعِ شاعريَّتِه في هذه القصيدة و في خَلْوة النَّفس و الجلوس على عَتَبَة الأمل المَشحون بالأسى ..فكلّ مافيه يَلتهبُ..يشتعلُ .. يَتَفَجّر ..
قصيدة - مقامات بغداديّة - كنزٌ و ثَراءٌ ، استخْلَصَها شاعر كونيٌّ ، فاستخرجَ من عالمها مواقف و منابع صَعبة ، لَحْظَةَ وقَفتْ فَرط الرُّمّان تَسْتَقريءُ الأَحداثَ و تَسألُ عن الأخبار ، رُبّما أَخْفَتْ ما تَبَيَّنَ لها في دَفيق الماء و ترَكتْ ذلك لقصيدة الشّاعر أن تَتَحدّثَ عنه بالعَزاء الجميل ؛ فالشَّمسُ لن تنحدرَ كثيراً للغياب ، و إنْ شاخ بُلبُلُ الإنشاد ، مادامتْ نَجمةُ النّفس تُشرقُ ثانية من إسار الليل ، فيَنتفض الرّماد في صَحوة الإنشاد الجميل ..!!
إنّ فخامة هذه القصيدة أنّها كلٌّ يَعكسُ الإنبهارَ في تَميُّزِها و امْتياز الشّاعر الحَصيف في صياغتِها شَكلاً و مَعنىً .. إنّهُ شاعرٌ هرمونيٌّ حضاريٌّ يأتي بتنوّع الأشكال و الصِّيغ من أدوات مختلفة التّركيب لكنّها جميعاً مُتّحِدَة الأَداء مُنتظِمة سَيْرِ الحَدَث و مُؤثّراته في أَناقة الدّالّ المَحفور بِدِقّةٍ في حُروف النَّصِّ الإِبداعيّ ، و قَبول استذكار ما مَضى ، حين يَلتفتُ إلى فَنّانه الذي كانت ريشتُهُ ترسمُ ملامِحَ الحياة شَفّافةً رائعةً ..
فُتِحَتْ للشّاعرِمَغاليقُ الأسرار ، لِيَتَبَيَّنَ
ما كان عليه في مَدينتِه الأُولى .. نهراً و جِسراً و أشجاراً و بيتَ حبيبةٍ ، و تلك الليالي للسّمَرِ البَريء و القمر الأخضر الطّالع و المُتَألِّق في سَمائها الأوفَر حَظّاً في فُؤادِهِ ..و في رِحلة الشَّجِنِ في قصيدَتِه يَجِدُ نَفْسَهُ افْتراضاً مع المُطرب الجميل ذي الصّوتِ الشّجيّ و مقام (اللامي ) الحزين و الأكثر شَجناً في محاكاة الرّاحلين و المُغتربين و الغائبين عن الدّيار ، فتَحتقِنُ أوداجُهُ : أين هي الدّار ؟!
و أينَ هي الحبيبة بَغداد ؟!
و تطول به الرُّؤيا ، فيستذكرُ نَبعةَ الرّيحان بِأسىً ، و حينئذٍ يتحَوَّلُ إلى مَقام الشّجَن و الفَرَح و الفخامة : مَقام البَيات .. و مازال مُسرِعَ الخُطى من مَقامٍ حزين إلى آخَر ، بين فَرْط الرُّمّان و نَبْعة الرَّيحان و بيّاع الورد و كأنّنا نجولُ معه بُستان روحِهِ في جَوهر القصيدة و مُؤثّرِها الإيقاعيّ المُختلِف ، فتزداد الرُّؤيا تَكاثُفاً و تستحيل الأحزان لوحةً يَدْهَمُها بِأَلمٍ رمز مَقاهي بغداد النّبيل سَلمان - حين سال دمُهُ بِرصاصة قنّاص أمريكيّ وَقِحٍ - و يَتأجّجُ مشهدُ القَتامةِ ، و يَنقطع المنشدُ عن استمراريّة نغم القصيدة لتَمتزج أمام عينيه صورة دم سلمان و عُرس الدّم لذلك الفتى الإسبانيّ العظيم لوركا بِرصاص أعداء الحياة ، آنئذٍ تنفتحُ أبواب القصيدة على كونيّةٍواسعةٍ لِتحتضن إنسانيّة الإنسان المكافح في أماكن أخرى من العالم .. عندها يقف مذهولاً عن زمن مضى و زمنٍ هو فيه الآن : احتلالٌ أفسدَ ما في الوطن من جمال و قدسيّة و حياة .. فتنحني القصيدة هذه لِمُبدعِها الكبير في إيقاع الرّسْت ..حالة للخشوع و الصّوفيّة و المُناجاة ، و يعود يسأل ثانية عن ضياع الحبيب ،و أين هي بغداد ؟! و بِحُزنٍ عميق يغتسلُ بِماء عِفّتِهِ و صبرِهِ الجميل و إرادتِه في تَمرُّد النّفس و القصيدة ، فيبتعدُ عن عينيه مَرْأى بغداد الجمال و فُتوّة الأصدقاء و تتصاعدُ حركة المعنى الأعمق في القصيدة ، ربّما تَبقى مُضمَرَةً في انتقالاتٍ أُخرى في دلالاتها و النِّظام الذي شَرّعَهُ لها المُبدع منذ بدايتها مُعتمداً جَدَلَ أساسيّات الإختلاف و جميل المُسْتكشَف بِميزةٍ تتعامل مع روح الشّاعر و تكامُل التّكوين الشِّعريّ في قصيدته و يختتم هذا المَشْهد المُختلف الدّرامي بِمَقام الحجاز الحزين ، لحظةَ رأى رَسّامَهُ الباهر الذي لم يبقَ في لوحتِهِ سوى خُطوطٍ مُضطربة و الرَّمادُ في كلّ مَكان …!!