الأنباط -
بعد مرور عام واحد على تحریر المناطق الأذربيجانية المحتلة منذ ثلاثة عقود، ضمنها جبلية "قره باغ"، وجب علينا أن نقف وقفة متأنیّة، وأن نستعيد ذاكرتنا لِمَا قبل قرن مضى، كیف كانت أذربیجان، وكیف أصبحت الآن في مشهد الحقيقة التاريخية التي دشّنت حقبة عظیمة في تاریخ الشعب الأذري وشعوب إقليم القفقاس، إذ تمكنت أذربيجان الشقيقة للقفقاسيين من تحريرترابها بعد كفاح متواصل دام 44 يوماً، إذ أحرز جنودها الشجعان نصرًا ببطولاتهم التي تحولت إلى أساطير بتضامن الإخوة دول وقوميات القفقاس والشتات القفقاسي، وبفضل قوّة جيشها والتكنولوجيا المتطورة التي استخدمتها في الحرب المقدسة.
أرى بأنه یجب على كل قفقاسي وإنسان موضوعي ومواطن في الكرة الأرضية، أن یفكِّر مَلیًا بتاریخ ھذا البلد الذي مرَّ بمراحل مریرة في كثیر من نقلات التاريخ، وعلى طول وعرض أكثر من قرن من الزمان. هنالك، وكما تُحدِّثنا الأسفار، اختفت شعوب بأكملھا، ومُحِیت أوطانھا وثقافاتھا من على وجه الدنيا، ولم یَعد لھا أي ذكر وذكرى، إذ توجد قائمة طویلة من المذابح المَنسیّة التي یتجاھلھا الغرب والشرق لأسباب سیاسیة، أو دینیة، أو عنصریة والخ، فیما یمكن تسمیته بعنصریة المذابح ضد الأُمم والشعوب، فمقدار اھتمام الغرب بالأزمات والكوارث مرتبط بھویة الضحایا والجُناة إلى حد كبیر، وینطبق ھذا على المذابح بشكل كبیر، فكلما كان الجاني غربیاً أو حلیفاً للغرب، والضحیة لا تنتمي للشعوب الغربیة، يجري تجاھل تلكم المآسي (والأذریون هنا نموذجاً واضحاً)، أمَّا إذا كانت الضحیة غربیة أو حلیفاً للغرب، جرى تضخیم مأساتها. وينطبق هذا الأمر على أذربيجان إذ تابع العَالَم خلال الثلاثين عامًا المنصرمة مأساتهم الوطنية، ذلك أن الأذريین من الرجال والنساء ضحّوا واستشھدوا في الحرب العالمیة الثانیة دفاعًا عن أذربیجان والقفقاس برمته وفي المعارك الضخمة للدفاع عن موسكو، وستالینغراد، ولينينغراد، وقلعة بريست، فباكو العاصمة الأذرية عبّأت في بداية الحرب العالمية الثانية (الوطنية العظمى) 600000 شخص من جبهة أذربيجان لوحدها، لمواجهة الجيوش النازية، مِمَّا أدّى إلى فقدان أذربیجان خیرة أبنائھا وبناتها، حیث یُقدَّر عدد شھدائها بأكثر من ٣٠٠٬٠٠٠ شھید، ونسبتھم لتعداد السكان آنذاك ٫١% ٩ وعدد السكان ٣٬٢٧٠٬٠٠ نسمة. وبناء على كل ذلك يتحتم على الأذرین اليوم إعادة بناء دولتھم بالاعتماد على الذات أولًا، ثم بمساعدة من الإخوة والأصدقاء لإنهاض ما دمرته الحرب، ولتصليب مكانة وبُنيان البلاد اقتصادیًا وعسكریًا، وللحفاظ على وحدة الوطن والتعایش السلمي والازدهار الثقافي واللغوي والحضاري للطبقات وفئات المجتمع وفيما بينها، تحت ظل القانون ولوائح حقوق الانسان، وضمن علاقات متوازنة ومتبادلة لحسن الجوار مع الدول المحیطة بأذربیحان، وعلاقات طیبة مع دول العالم وفق القانون الدولي، دون أن تسمح أذربیجان بوصایة أي أحد علیھا، فزمن الوصایة على أذربيجان انتھت تمامًا منذ الیوم الأول لاستقلالها عن الاتحاد السوفييتي.
أذربيجان اليوم دولة ذات سیادة كاملة يعيش فيها بحرية المسيحيون والمسلمون، وهم يُصلّون في كنائسها الأرمنية والألبانية، إلا أنها لا تسمح لأحد باستخدام أراضیھا ضد الآخرین، لكونها تتطلع لتبادلية سلمية مع جيرانها ومع أرمينيا بالذات، وهي سياسة حكيمة تتناغم مع كل القوانين وأديان السماء والإسلام والمسيحية، ونحن أذ نحيي أذربيجان في عيدها التحريري الحالي الأول الذي أعاد إليها المسلوب من أرضها وكرامتها، نرید لها كما لكل الشعوب والدول أن تعیش بسلام وعلى قدم المساواة مع الجميع، وفي نفس الوقت أن تتمتع بقوة عسكریة عظیمة للردع الوطني، وهو حق قانوني تكفله لها جميع القوانين والشرائع، لتستطیع الدفاع عن نفسھا لمنع عودة الأوضاع القهقرى، كالمجازر، والتطھیر العرقي، فنحن كقفقاسيون نُدرك بأن قواعد اللعبة باتت تتغیر، والوضع في الإقلیم القفقاسي حاليًا لا يشابه وضعه بالأمس، وعلى أرمینیا وأذربیجان أن تشرعا بحل مشاكلھما فیما بینھما سِلمًا لا حربًا، وبدون شروط مسبقة، وعلى الجمیع على وجه البسيطة أن یعلم بأن لا أحدًا یستطیع أن یمحو الأخر من الوجود، فمصالح الجميع مشتركة، لا سيّما بحكم الجغرافیا السياسية منذ قرون كثيرة، ما يهيء للبدء بصفحة جدیدة بينهما، لحل المشاكل بالحوار البنّاء، ونعلم أن باكو واقعية وترحِّب بكل ذلك تمامًا.
أذربيجان وأرمينيا جارتان وجزء لا یتجزء من قفقاسیا الكُبرى، والسلام في ربوع القفقاس مصلحة مشتركة للجمیع. وفي النھایة نتقدم من فخامة الرئيس إلهام علييف ودولة وشعب أذربيجان القفقاسية الشقيقة لنا نحن الشراكسة، بالتهنئة القلبية والعقلية باستعادة أراضیھا التي كانت سليبة، وأعلاء كرامتھا والانتصار لشعبھا، وهو ما يتماھى وينسجم مع مطالب حركة التحرر الوطني العالمیة، وقرارات منظمة الأٌمم المتحدة، ومنظمة التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز، وغيرها من الفعاليات والهيئات العالمي، ونرجوا ونبتهل للمولى العظيم أن یَعم السلام والأمن والاستقرار العالم، لخیر كل الشعوب والأمم كبيرها وصغيرها.
*كاتب وباحث أُردني شركسي في شؤون القفقاس.
د نیازي كتاوkataw4@gmail.com