الأنباط -
الأكاديمي مروان سوداح
خلال تجوالي المتواصل في بعض المناطق العمَّانيَّة، لاحظتُ ازديادًا ملحوظًا بمنسوبٍ عالٍ لعددِ السيارات الفارهة التي تصطف جوار مطاعم من العيار الفخم والوزن الثقيل التي لا يتّسم بالشجاعة للدخول إليها سوى أصحاب سيارات تتسبب لي بصدمات نفسية متلاحقة، فلا قُدرة لأمثالي على شراء أصغرها ولو بعد قرن أو قرنين من الزمان، حتى ولو امتدت أعمارنا لنشهد انتقال البشر إلى كواكب سيّارة تدور حول شُموس أخرى أكثر لمَعَانًا وأوسع أرضًا ومُحِيطًا.
في كل الأحيان لا أتفحص زوار أي عَمائر من طراز فَخِيم أو أقل فخامة، لأسباب عدَّة، لعَلَّ أولها أنهم من طينة أخرى غير طينتي، فهم كذلك غير مُبالين بوجود أمثالي تمامًا كأمثالي غير المُبالين بهم، إذ إنهم يتحدَّرون من كواكب غير كوكبنا تسعى إليها الدول الكُبرى، طافحة بمزارعٍ متقدمة تكنولوجيًا، مهمتها تفريخ الأحجار الكريمة، والألماس، والذهب دون الفضة بالطبع، لأن الفضة سويًا مع "الذهب الروسي" صديقة مُخلصة لأصحابنا عُشاق الفَقر والفَقر المُدقع، الذي يدلُّ على قُبحٍ وشَناعَةٍ وإهانةٍ وإذلالٍ للذات البشرية وإنسانيتها.
على مساحة طبقية معاكِسة، أتفحص مَشَاهِد مؤلمة جدًا وبشعة، جُلّها بشر من مواطنينا وأحبتنا، من طينتنا وأمزجتنا، يزدادون فاقةً وفَقرًا، يبحثون في الحاويات المُتّسخة دومًا والتي تُشبهُ جحُورًا لحشراتٍ تتحدى ديمومة الحياة الإنسانية، كونها سراديب تختص بتوليد الحشرات والأمراض التي تأتي بالموت لضُعفاء الجَسد وشَحَّ ذات اليد. هؤلاء منتشرون في كل زاوية وهم يَغوصون في قيعان المزابل بحثًا عن شيء نحيل يبيعونه ليعتاشوا عليه يومهم وإن يَكن رغيف خبز واحد يوميًا.
بين هؤلاء الذين ينتمون أيضًا لبني آدم وذريَّة حواء، وليس لغيرهما، أحدهم خَدَمَ معي في ..... فقد حَضَرَ إلى عمَّان ليلتقي أهله، وعلى الأغلب لم يلتقِ بهم، فلم تُسعفه الأقدار والأموال وقلَّة ذات اليد لجمع ولو القليل من الدنانير للعودة إلى مسقطِ رأسهِ ومكان عملهِ، فبقي مُرغمًا أعزبَ، يعيش في الشوارع، ويَعتاش على جَمْعِ القُمامة، وقد رأيته بأُم عيني مرَّات كثيرة، وما أزالُ أراهُ بين حين وحين منذ بداية 1988 وإلى يومنا هذا، وأرى وأُتابع المَساكين المُعذَّبِين "أمثاله مَثايل"، كما يقول المَثَلُ العَامي!
لم أتحدث مع صديقي هذا خلال جولاته اليومية بين الحاويات، فقد جار عليه الزمن، ومن غير المناسب أن أذكِّرهُ مَن أكون أنا، فلا يجوز باعتقادي أن أُعيد به القَهْقَرى إلى الخلف، إلى سنوات "صداقتنا ..." السابقة وأحلامنا الشبابية الوردية، فالأمر غير مناسب له ولي، وربما هو نَسِي مَن أكون أنا بعد كل هذه المدة الطويلة وتقلبات الحياة بحدَّتِها على حَيواتنا، ولكأنَّهَ لي وله قرن أو اثْنَان مارسَا الطعن بأنصال حادة غُرزت في قلوبنا هو وأنا، فالفرق بيني وبينه أنني أعيش على تقاعد وإن كان ثلاث مئة دينار شهريًا "فقط لا غير"، بالرغم من شهاداتي العلمية العالية!، بينما هو يَعتاش على ما يجده من بقايا متسخة ومُمْرِضَة، وقد لا يجدها، فيتضوّر جوعًا وألمًا وحَسرة على حياة هي الأسوأ، لا أمل منها ولا نجاة من غيلانها غير البَرَرَة، فليَسمع مَن يَسمع، ولِيَرَ مَن يَرى. وفي نهاية مطافات هذه الحياة المُنهِكة وغير العادلة، هنالك محكمة سماوية قاضيها هو المَولى العظيم في رِحَاب السَّماء، يُصدر قراراته القطعية الحانية على الأخيار، والقاطعة كحد سيف بن ذي يزن على الأشرار.