دعوت في مقال سابق إلى إعادة إكتشاف الشهيد وصفي التل. وفي ظني أن إعادة الإكتشاف هذه ستعيد توجيه بوصلة الكثيرين منا إن كانوا مخلصين للرجل ولمشروعه, وكذلك ستعيد توجيه بوصلة الوطن إلى الإتجاه الصحيح, الذي قامت على أساسه الدولة الأردنية الحديثة وآمن به رجالاتها ومنهم وصفي التل, أعني به إتجاه إحياء القومية العربية والإيمان بها والدفاع عنها, مثلما فعل وصفي التل الذي كان قومياً عربياً حتى النخاع, وكان من عصائب حركة القوميين العرب مثل جورج حبش وحمد الفرحان وكمال الشاعر وبرهان الدجاني وغيرهم كثير, ممن آمنوا بهذه الأمة وسعوا لإحياء نهضتها واستعادة دورها التاريخي كرافعة حقيقية للتعددية التي قامت عليها حضارة هذه الأمة, وعند هذه النقطة أحب أن أتوقف عند قضية تحتاج إلى تأمل.
وهذه القضية التي تحتاج إلى تأمل تأخذ شكل سؤال هو: لماذا تتم محاربة العرب والعروبة والقومية العربية باسم الإسلام عند الكثيرين من الإسلاميين العرب, الذين جعلوا القومية العربية في مواجهة الإسلام وروجوا أنهما لا يجتمعان, بينما تم استخدام الإسلام لإحياء قوميات أخرى من قبل نفس المدارس السياسية التي حسبت نفسها على الإسلام لكنها حاربت القومية العربية, وأمامنا الكثير من التجارب المعاصرة التي تؤكد ما نقول, فرجب طيب أردوغان يدعو إلى أمجاد الخلافة العثمانية وهو شديد التمسك بقوميته شديد الاعتزاز بتركيته, بينما لا يفعل هذا أبناء مدرسته السياسية من الإسلاميين العرب, بل على العكس من ذلك فإن منهم من يؤيد الاستقواء التركي على هذه الرقعة العربية أو تلك, وهو نفس ما يفعله الإسلاميون العرب الذين يدورون في فلك الثورة الإيرانية, بينما لا يقبل ذلك الإسلامي التركي أو الإيراني أو سواهما من المسلمين الذين يعتزون بقوميتهم ولا يجدون تضارباً بينها وبين الإسلام, وهؤلاء جميعاً ينسون مقولات نبي الإسلام التي تمجد العرب والجنس العربي, بل إنه عليه السلام كان يفاخر بأنه سابق العرب, وفي الأثر أنه إذا ذل العرب ذل الإسلام, وأن عز الإسلام مرتبط بعز العرب.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا إذاً ولحساب من يتم وضع القومية العربية في مواجهة الإسلام؟ ولماذا يطلب من العرب أن ينسوا قوميتهم إذا أرادوا أن يكونوا مسلمين حركيين ولا يطلب ذلك من غيرهم من مسلمي الشعوب الأخرى؟ فهل المقصود من هذا الطرح إضعاف العرب وتمزيق صفهم على أساس ديني, ومن ثم تجريد الأمة من عنصر هام من عناصر قوتها ممثلاً بإيمانها بالتعددية, بعد أن أثبتت الوقائع على مدار التاريخ أن هذه الأمة تتوحد أمام التحديات الخارجية متجاوزة الدين والمذهب فقد كان العرب المسيحيون من أشد المقاتلين ضد الغزاة الفرنجة, الذين جاءوا لإحتلال بلادنا تحت راية الصليب في القرون الوسطى, مثلما كان العرب المسيحيون من أوائل من إنحاز لمواجهة الاستعمار الغربي الحديث وربيبته "إسرائيل", بينما انحازت الكثير من الدول "الإسلامية" إلى إسرائيل وناصرتها, وقبل ذلك كانت أديرة وكنائس العرب المسيحيين هي التي حفظت العربية لغة القرآن في مواجهة مؤامرة "التتريك".
هذه وغيرها من الوقائع كلها تكذب مقولة المواجهة بين الإسلام والقومية العربية التي حاول البعض ترويجها بيننا لإضعاف الأمة وتشويه روموزها. وهو ما أمن به الشهيد وصفي التل, فمما لا شك فيه أن الرجل كان عاشقاً للأردن لكنه لم يكن متعصباً منغلقاً عليه, فقد كان في نفس الوقت قومياً عربياً حتى النخاع, فالوطني الجيد هو أيضاً قومي جيد, لأن مصلحة الوطن من مصلحة الأمة, لذلك كانت بوصلة وصفي دائما نحو فلسطين لأنها قلب بلاد العرب, ولأن الخطر الصهيوني كما فهمه الشهيد يستهدف الأردن كما يستهدف فلسطين, كما يستهدف كل عربي المسيحي منهم قبل المسلم ولذلك فإن من الظلم جعل وصفي التل عنواناً جهوياً أو إقليمياً, وهذه هي الخطوة الأولى نحو اكتشافه وفهمه.