نعلم أن اليابان بلد الموارد المحدودة جداً، يصُنِّف سنوياً في الصفوف الأُولى من حيث مستويات الإنتاج القوميِّ والإنتاج المحليِّ، ومستوى دخل الفرد الإجماليّ، وبالتالي ينعكس إيجابا على المستوى الاقتصاديِّ العام للدولة. ويعزا ذلك جزئياً إلى عادات وتقاليد الشعب الياباني المتمثِّلة في الإخلاص والتفاني بالعمل، والوفاء لربِّ العمل، وثقافة العمل مدى الحياة حتى الموت، وضرورة ووجوب أن يكون الفرد منتجاً، لذلك وبعد أن توجَّهت الحكومة اليابانية عقب الحرب العالمية الثانية إلى العمل والإنتاج في القطاع التكنولوجيِّ والصناعيِّ، ممَّا نجم عنه ثورةٌ صناعيةٌ تكنولوجيهٌ نهضت بمستوى الإنتاج العام والاقتصاد الكليِّ وقوة وازدهار وتقدم البلاد بشكل نموذجي وإيجابي .
وأيضا على المستوى الإقليميِّ المجاور، حيث تشهد بعض من الدول المجاورة ذات الثقافة والإستراتيجيات الإقتصادية التي ساهمت في تحقيق الإكتفاء الذاتي، والاعتماد الشبه الكليٍّ على الإنتاج المحليِّ، مما جعل هذه الدول تنعم باستقلاليَّة واضحة، تجعلها كالطود الشامخ في وجهِ أيِّ قوَّةٍ خارجية أو أيِّ تحدِّيات خارجية تهدِّد أمنها واقتصادها واستقرارها.
ولسائلٍ أن يسأل ما الذي جعل هذه الدول ذات اكتفاء إنتاجيٍّ، وذات استقلاليَّةٍ اقتصاديَّةٍ؟! وما الذي جعلنا كياناً غير مستقل اقتصاديَّاً وذا إنتاجية ضئيلة جدَّاً، حيث نُعَدُّ في صفوف الدول المستهلكة وغير المنتجة, بل مستوردين وغير مصدِّرين حتى لأقل وأبسط الحاجات؟!
إنَّ المتأمِّل والمدقِّق ومن ينعم النظر في الأمور، يجد أن هذه الدول التي ذكرتُها كنموذجٍ إيجابيٍّ على القوة الاقتصاديَّة، هي دولٌ ذاتُ ثقافةِ عملٍ حِرفيَّةٍ ومِهْنيَّةٍ من الطراز الأوَّل، شعارهم في العمل: "مَعْمَلُك مَعْبَدُك"؛ بينما تُهمل دولنا وعلى رأسها الأردنُّ العملَ الحِرْفِيَّ، ولا تشجِّع عليه، ولا تهتمُّ الجهات المعنيَّة بأصحاب الحرف، ومشاغل المدارس فارغة إنْ وُجِدتْ، وقد لا تجدُ مدرِّساً مختصَّاً يدرِّسُ المواد الحِرفيَّة، وإنْ لَقينا الإهتمام وجدناه صُورياً، لا يرقى إلى المتابعة المستمرَّة، ومكافأة المحسنين، ومعاقبة المسيئين والمتقاعسين، بل إن نظرة المجتمع للحِرفيِّ أو المِهنيّ نظرةٌ مشوبةٌ بالازدراء، لم تستطع حكوماتنا معالجتها تربويَّاً ومجتمعيَّاً وإعلاميَّاً.
وعلى النقيض من ذلك فيعدُّ الأردن مثلاً بلداً يشجِّع على التعليم الجامعيّ ويحضُّ عليه، ويذهب إليه أصحاب المعدَّلات العالية، وقد وصلت نسبة التعليم العالي في الأردنّ إلى 85% ويتبوَّأ الأردن المراتب الأولى من بين ١٤٢ دولةً في مستوى التعليم الثانوي والعالي.
وأعتقد أن هذا التوجه والتشجيع المستمرّ و الدؤوب من الحكومة للتعليم الأكاديمي له الأثر السلبي على الإقتصاد الأردني بشكل غير مباشر، لما له من أثر في إهمال القطاع الحِرْفيِّ والمِهْنِيّ والزراعيّ والصناعيّ.
وممَّا يندى له جبين المرءِ حقَّاً أن يصبح هدف المواطن وسبيله المنشود هو إيجاد لقمة عيشه من خلال وظائف الدولة التابعة لإحدى الوِزارات الحكومية للقيام بأعمال خدمية روتينيَّة، فينتظر دوره في التعيين التنافسيّ، كونه يحمل شهادة جامعية أو ربَّما شهادة عُليا، ولأنه لا يُتقن أيَّ نوع من أنواع الحرف والمهن التي تؤهِّله للإعتماد على نفسه، وأنْ يكون عنصراً منتجاً فاعلاً في بناء المجتمع وتطوُّره مما ينعكس على اكساب المجتمع صفة المستهلك لا المنتج.
فالذي يحصل هو العكس حيثُ إن تلك الأعمال المكتبية تكون وبالاً على الإقتصاد، كونه عنصراً مستهلكاً لاقتصاد بلده، يستهلك ما أنتجه غيره.
فما أحوجنا إلى بثِّ مراكز التعليم الحرفيّ والصناعي والزراعيّ في كل مدرسةٍ من مدارسنا على امتداد بلدنا الكبير! إنَّنا بحاجةٍ إلى إكساب الطالب مهنةً أو حرفةً، والقيام بعمل تسهيلات لتأسيس وإنشاء المشاريع الصغيرة والمتوسطة لأصحاب الحِرَف والمِهَن في القطاعات الزراعية والصناعية والتكنولوجية والحيوانية والحرف اليدوية كما هو الحال في كثير من الدول المجاورة ذات الاكتفاء الذاتي ومعدلات الإنتاج المحليّ المرتفعة.
في الحقيقة أننا بحاجة إلى تقليل رفد السوق بالمُخرجات الأكاديمية الراكدة لا محالة، التي تزيد الطين بِلًّة، وفتح الأبواب للتعليم والتدريب المِهنيِّ والحرفيِّ للإناث والذكور على حد سواء، وتحفيزهم واستقطابهم من خلال ضمان تقديم التسهيلات أمام فتح مشاريع حرفية ومهنية صغيرة ومتوسطة للأفراد، و توجُّه الحكومات إلى الاستثمار في القطاعات الزراعيَّة والصناعيَّة والحِرفيَّة والحرف اليدويَّة والتكنولوجيَّة، ممَّا سيحقِّق فائدة للأفراد من خلال توفير فرص عمل لذوي الياقات الزرقاء والنهوض بالإنتاج القومي والمحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتيِّ من خلال التوجه للإنتاج الصناعيِّ والزراعيِّ والحيوانيِّ والحِرفيِّ والتكنولوجيِّ، مما سيحقِّق نهوضاً في إجمالي إنتاج الفرد المحليّ وبالتالي إرتفاع مستوى الدخل للفرد الواحد.
فما أحرانا أن نكونَ كياناً منتجاً لا مستهلكاً، وما أجمل قول النبيّ محمد صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ الله يحبُّ العبدَ المحترف". وما أجمل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم أيضاً: "من بات كالَّاً من تعب يده بات مغفوراً له".//