لم يعد النظر إلى الفلسفة على أنها ترف ذهني أمرا مجديا؛ إذ باتت ضرورة تؤخذ كأداة لكشف المعنى خلف الفوضى العارمة المنظمة، وإعادة ربط الإنسان بمصيره الجمعي.
فبات من الصعب قراءة المشهد السياسي، بمنظور نظري بحت، إذ أصبح من الضروري التأمل في السياسة من منظور مختلف قليلا، وهو المنظور الفلسفي المتكامل، والذي يستشف أبعاد الحياة بشكل مترابط، مما يفتح المجال لفهم أعمق لدوافع البشر وقلقهم الوجودي.
النظرة الدائرية للزمن، فكرة فلسفية ورمزية، رصدتها الحضارات المتأثرة بالأفكار الشرقية والباطنية، وجرى ربطها بمدة زمنية مجازية وهي مئة عام، استنادا إلى عمر الإنسان كدورة حياة كاملة من بداية ونهاية وتجديد.
تقوم هذه الفلسفة على أن التاريخ لا يسير في خط مستقيم، إنما يتكرر بنمط شبه دائري، يحمل في داخله ملامح نهاية دائرة، وبذور بداية دائرة جديدة، وكأن الكون يجدد نفسه بإستمرار وفق دورات زمنية لا تحيد عن قانونها.
فحين نتأمل في الأحداث السياسية الراهنة من المنظور الفلسفي، قد لا نرى شواهد صارمة للحسم، إلا إننا نلمح نمطا يتكرر، يكشف لنا أن الفوضى والانهيار ما هما إلا نهاية تسبق ولادة نظام جديد قادر على التجدد؛ فوصول العالم إلى حد من التطور لم يعد كوكب الأرض قادرا على حمله، يحتم عملية الهدم من أجل إعادة البناء.
فتآكل التحالفات والصراعات الإقتصادية، الذي نشهده اليوم، يبدو وكأنه يمهد لإضطراب كبير، يشبه النهاية الكبرى لعالم الإمبراطوريات، وولادة عالم الدول القومية، على يد الحرب العالمية الأولى في بداية القرن العشرين.
ولأن الإقتصاد ليس كيانا خارج عن القوانين الكونية، فإن ما نراه اليوم من ملامح هاوية كساد وتفكك أسواق، ينذر بأن المنظومة الرأسمالية النيوليبرالية تحاكي سابقتها، وتطالب بإعادة تدوير من الجذور، تماما كما أطاحت الأزمة الكبرى عام 1929، بأسس النظام المالي، ممهدة لصعود الفاشية والنازية.
ولن ننسى أصوات الاحتجاجات المنفجرة في شوارع باريس، روما، تل أبيب وواشنطن، فهي تنذر بأحداث مشابهة للثورة الفرنسية، ضد احتكار السلطة والثروة، وضد ركود الطبقة السياسية، وسطوة رأس المال.
ومن عمق أبعد، فإن حضارة الذكاء الإصطناعي والإستعمار الرقمي، يضع العالم اليوم أمام أعتاب عودة التوازن بين الروح والعقل، وبين الإنسان والآلة، تماما كما انهى سقوط الأندلس حضارة الروح والعلم، وأشعل بداية عصر الاستعمار المادي، لتثبت لنا القوانين الكونية، مرة أخرى، أنها تتجاوز حتى الماديات.
ربما الحديث عن وجود "يد خفية تحكم العالم"، بات أمر شائع، لكن ان القراءة السياسية الفلسفية، ترى أن الكوكب يفاجئنا بحركة جذرية، ينهي بها دورة من المصير البشري بلغت ذروة الإكتفاء، فيكسر كل ما تراكم ويعيد الخلق من جديد، إلا أن هذا الجديد لا يولد من العدم بل من رحم الفوضى، ولادة فيها من الطُهر ما يشبه فجرا أول، وفيها من العنف ما يشبه طوفان نوح.
قد تبدو هذه النظرة بعيدة عن إقناع العقل البشري، غير أن الشواهد التاريخية التي لا تُخفي علينا أن في نهاية كل مئة عام، تهتز عروش وتنهار أنظمة وتولد أفكار بينما تمحى أخرى، تتلاشى سرديات كانت تبدو ثابتة وتُخلق سرديات جديدة من رمادة الحيرة.
فالهزات المئوية لطالما لطالما جاءت بحربين عالميتين، فولادة عظمى، ثم إنهيار، فثورات فكرية، فطفرة تكنولوجية، ثم صمت يسبق عاصفة الانهيارات البيئية و الإقتصادية وصياغة هوية الدورة القادمة.
مما يثبت لنا أن ما نعيشه ليس عبثا عشوائيا، إنما هو خاضع لقوانين هندسة كونية لها تواقيتها الدقيقة، المحكومة بالطاقة الاستيعابية لكوكب الأرض، فحتى لو لم نكن نسمع نبض الكوكب، لكنه بلا شك موجود، تماما كنبض الإنسان، حين تصل أحماله إلى أقصى طاقته، تصبح الصعقة الكهربائية ضرورة لإعادة إحيائه.
إلى جانب حاجة الكوكب إلى هذه الدوات، فهي أيضا لا تأتي في توقيت عبثي بل كل ثانية منها محسوبة بدقة، فما إن بلغ الإنسان جبروته، حتى كُسر جبروت المتجبر، وأعيد إلى تواضعه؛ لتذكره إنه ليس إلا جزء صغير من هذا الكون.
وما أن تمادت الحضارات بفسادها، حتى أُسقطت، لتُحيى شعوب باتت مستعدة، في ميزان دقيق موزون بعداد لا يخطئ يناسب كل دورة بقدرها ووعيها.
قد يبدو للوهلة الأولى أن قراءة السياسة من هذا المنظور هروب من الواقع، لكن الإشارات الكونية والرسائل المشفرة، تجعل من يملك البصيرة لا البصر فقط، يشعر بإرتعاشة كونية تسبق سعلة الأرض لتخرج من رئتها غبار الدورة الحالية.