الأنباط -
الدكتورة شذى فاعور
جبل التاج وضياع بوصلة الضمير
يبدو من الوهلة الأولى لدى قراءتك لرواية جبل التاج لمصطفى القرنة، بأنّك سوف تعيش في مكان منعزل عن غيره، صغير في مساحته، إلا أنّك ما تلبث أن تكتشف أنّ هذا المكان بتنوّع ضمائره وانتقال ضمائره من ( الأنا ) إلى ( نحن ) أو إلى الضمير الغائب، هو الوطن بشرائحه، بتقلبات طقسه، بتاريخه، بمساجده، بشوارعه ،بطبيعة سكانه، تأخذك هذه الرواية إلى تأريخ هذا المكان وتضع أمامك خريطة طبوغرافية لجبل التاج ( الخريطة سابقا )، وإذْ بك تحلّق مع ضمائرها السردية في وادي الرمم، والجسور العشرة، والمحطة، وجبل القلعة، والبيادر، وجبل الجوفة، واللّويبدة، وعين غزال. وربما تصعد وتهبط، تتلاشى وتظهر، تعانق الخيل وتركب البغال والحمير فوق أفق الجبال، وتهبط في المراعي مع الأغنام، وتقابل تلاقح فئات المجتمع بين الشركس والعوام، بين المسلم والمسيحي، بين العثمانيين الأتراك، والألمان، والإنجليز، والهنود وهذا الاتساع المكاني المجازي خلق تعددًا في الأنوات لدى ساردي الأحداث بل لدى رواة ( جبل التاج )؛ ففيها تعدد ضمائري، وفيها الأنا الخائف، و الأنا الضائع، وفيها الأنا السعيد، وغيره من الأنوات .
تعدّد الرواة في ( جبل التاج )، وكان لكل منهم أناهُ المختلفة، حيث بدأت الرواية باسترجاع ذاكراتي عن طريق مشهد لشخص مسن يقول فيه: " عاد الحلم إلى ذاكرتي كوميض بعيد ينادي كأنّه إشعار من الماضي يذكّرني بما بدأته وما لم أكمله" . القرنة : 6. ونرى كيف بدأت تلك الرواية بمشهد الأنا الضائع، وذلك من خلال هذا الضمير الأنوي التائه، الذي يستذكر أحداثا ومشاهد للروس، وهو بتلك الأنا يخلق ذاكرة استرجاعية وتقانة للسرد الذاكراتي الومضي، حيث يستذكر كيف قاتل مع الشركس، وكيف دافع عن مضيق باكسان، وهذا الضياع في الأنا جعله يستذكر أثر الروس على زوجته ، وكيف بُقرت بطون النساء، وكيف كان المشهد المأساوي لهروب السفن التركية في البحر الأسود. وإذْ به مرة أخرى يعود ببوصلته نحو جبل التاج، وتحديدا إلى حي الشركس، حيث تغيب الأنا مرة أخرى من أجل حضور حقيقي للسارد العليم بين ذكريات وأحداث في حي الشركس، وأحيانا من خلال حضور شخصيات ثانوية، من مثل ابني هذا المسن وهما : سلطان،وفارس، أو إلى ذكرياته مع الثور برونو و طبيعة العمل في الزراعة.
وتماهت الأنا في غيابها مرات ومرات، وتلاشت في حضرة الذاكرة الوصفية المشهدية، لينقلنا ( القرنة ) إلى تسلسل الحياة الطبيعي في جبل التاج وتطورها من الحياة في المُغر، إلى مراحل بناء سكة الحديد الحجازية، إلى طبيعة الحياة وقسوتها، إلى طاقة وصف كبيرة للمخيم، والمساجد، كمسجدي : العُمري والشهيد، ووصف الآلات الموسيقية، وحياة الشركس، ونقل المعاناة جرّاء الكوارث الطبيعية كالفيضانات، والسيول، ووصف الأمراض كمرض الملاريا، والكوليرا.
ثمّ نلحظ أن ( القرنة ) عمد إلى تسارع وتيرة الأحداث، وهذا التسارع كان مقترنا باستخدام ضمير الغائب، هذا الضمير الذي يعلن مرحلة علنية من غياب الأنا وتماهيها في قناع سردي من أجل تخفيف حملها الذاكراتي الاسترجاعي، وقد جعل ( القرنة )،من ضمير الغائب تمثيلا لحضور الشخصيات، وتمهيدا لذكر صراعاتها المختلفة في المعارك الدائرة بين العثمانيين وغيرهم، أو ليذكر صراعات الشخصيات النفسية والاجتماعية ، ومن ثمّ تعود الأنا الساردة محملة بهذا الضمير؛ لتعلن غيابها في حضرة شخصيات مختلفة، حيث يقول مثلا واصفا ابن المسن : " تتلاشى أمامه مشاهد الجبل الهادئ ليغمره الصخب والمشاغل التي لا تنتهي وينتقل بين الأسواق المزدحمة، حيث تعجّ الأصوات والعروض بالملذّات والتحديات الجديدة " القرنة: 82. ويضيف في موضع آخر: " في تلك اللحظات كان يجد نفسه يربط بين عوالم مختلفة يكتشف قوة الجبل الذي ينتمي إليه وجمال الرحلة التي ينغمس فيها" القرنة: 82.
لقد جعل ( القرنة ) بوصله الأنا تنحاز إلى الغائب كذلك؛ لينقل لنا حالة من الحنين والاندماج بين الضفتين : الشرقية، والغربية، بين جبل التاج وبين القدس وأريحا ويافا وبيت لحم، حيث تغيب الأنا وتنتقل بوصلة السرد للضمير الغائب الذي يمثل الالتقاء بين القريب والبعيد، بين الأردن وفلسطين آنذاك ، حيث يتحدث بلسان فارس_ ابن المسن _ حين حلّق الضمير إلى القدس بتفاوتاته السردية، حين قال :" ياه ياوديان القدس العميقة، كان يخطو بين الحذر والعجلة بينما يحمل سلاحه بيده، سلاحه الذي أطلقه من فوق منزل قريب من الشارع السلطاني الخارج من بيت لحم، والمتجه للقدس. دمعت عيناه، معقول أن تسقط هذه المدينة المقدسة؟!" القرنة: 99.
تنوعت الضمائر كذلك بين الأنا والضمير الجمعي، الذي كان لا بدّ من حضوره لإثبات كثافة الصراعات الاجتماعية، بل ونقل صورة المعاناة الجمعية، كما جاء هذا الضمير لنقل صوت العمال في بناء سكة الحديد الحجازية، وخلق صورة صوتية وحركية لحركة القطار في المحطة، أو لوصف تلك الصورة المشهدية التأريخية لجبل التاج، ثم يعود مرة أخرى الى ضمير الغائب، حيث ينقل لنا صراعا لدى شخصية ثانوية، إلى شخصية سلطان الذي مالبث أن ترك زوجته ذاهبا إلى المحطة، ومن ثمّ إلى بلغاريا حيث قُتل هناك. يقول ( القرنة ) عنه: " تذكر وجهها الناصع الذي يضيء في ظلمة اللّيل، وصورتها عالقة، تظلّ عالقة في عقله، كحقول جبل الخريطة الذي أحبه" القرنة: 117.
ثم يعود ( القرنة ) بمؤشر البوصلة إلى الأنا، ليذكر جزءا مهما، ويكشف وجها سرديا لأحد أهم رواة جبل التاج، وهو: ينال بن سلطان، حيث يذكر على لسانه : " لقد وقفتُ صامدا في وجه العواصف التي اجتاحتني، وأنا لست شخصية وهمية، أنا رمز القوة، الإرادة، منذ عشتُ صغيرا في جبل الخريطة، يتيما بلا أب ولا أم، ولم تكن هذه الرواية سوى بعض ملامح حياتي. اسمحوا لي أن انسحب حزينا من هذه الرواية، أقصد جبل الخريطه بكل حب" القرنة: 149. و كان في عودة الأنا السابقة بوابة لحضور التشويق الروائي، بل وكشف القناع السردي عن إحدى شخصيات تلك الرواية، وعن عنصر من أهم عناصر تشكيلها المرئي والمُتخيل.
ثم عاد ( القرنة ) ، إلى تكثيف الأنا السردي الضمائري، وذلك من خلال شخصية جمشيد الهندي، هذه الأنا جاءت ضرورة سردية ملحة، لبيان معالم الاغتراب الداخليّ والخارجي في الرواية ، وأحيانا لبيان المنفى الحقيقيّ والمجازي، ولتبيّن كذلك مدى الحضور الاسترجاعي للمكان الأول، حيث جاءعلى لسان جمشيد :" أريد أن أبكي وأنا أتذكر الهند". القرنة : 152، ويضيف على لسانه عند ذهابه إلى يافا : " ورأيت يافا وانبهرت بها، كانت الحياة فيها نابضة بالنشاط والتنوّع، سرتُ في شوارع يافا غريبا" . القرنة : 153.
لا ننكر أنّ حضور الأنا الواضح لجمشيد الهندي كان حضورا طاغيا، تلك الشخصية التي مثّلت البناء الدرامي وضرورة لحضور الشخصيات الخلفية أوالثانوية، ومن ثمّ تسليط الضوء عليها، وقد فرّغ القرنة جزءا لابأس به من روايته لهذه الأنا، ونقلَ الأحداث الجارية مع تلك الشخصية ابتداء من عمله حارسا لشركه نفط بريطانية ومن ثمّ في نادي الإنجليز، ونقل أحداث مهمة، من مثل: زواجه من شيماء، وانجابه لمحمد، وميران، وجينا. كما يمكن القول إن الأنا كانت بمثابه نقل التحولات الحضارية في جبل الخريطة من عادات وتقاليد، أو شكل الأسواق وأسمائها، أوطبيعة البناء وتحولاته، حيث جاء على لسان جمشيد: " وقفتُ على رأس الشارع، ونظرتُ حولي، رأيت شوارع عمان التي كانت عادة مزدحمة بالحركة والحياة، الآن هادئة وخالية، المحال التجارية مغلقة" القرنة: 160.
نلحظ ثبات مؤشر الضمير على الأنا في مرحلة ختامية من مراحل السرد ، تلك الأنا لجمشيد الهندي، المهشمة ، الضائعة، الخائفة، التي تركزت معظم صراعاتها النفسية أثناء تواجدها في نادي الإنجليز، كان هذا النادي سببا في طغيان الضمير الأنويّ، وكثافة حضوره السرديّ، وقد كان لقصة الحبّ بين ابنه محمد وكاترينا ابنة رون رئيس النادي كامل التأثير في التركيز على الأنا المغتربة الضائعة الخائفة، فقد تعب ابنه محمد، وقد أصابه طيف من جنون، وهنا كان يستوجب حضور الأنا لذكر مرارة الاغتراب، ومسافات الصراع، وحجم الألم، حيث جاء على لسانه حين ذهب به إلى العلاج: "تركت محمدا في ذلك المستشفى وكان الناس يسمونه دير المجانين، شعرت بالحزن وأنا أعود إلى عمان، وقلت في نفسي: لعنه الله على الإنجليز" القرنة: 197.
تتكاثف الأنا السردية، وفي تكاثفها بيان للتأثير السلبي والسلطوي من الإنجليز على الذات الساردة، حيث يضيف على لسان جمشيد: " لكنّ الحراسة أخذت وقتي وجعلت من هؤلاء الإنجليز عالمي الوحيد، ودمرت ابني محمدا الذي أحب كاترينا الملعونة" القرنة: 211. وأضاف في موضع آخر عند حديث جمشيد عن رون:" أريد أن أخبره أن محمدا مرض بسببه" القرنة: 231. ويبدو كذلك أنّ كثافة الأنا جاءت مقترنة بفضاء الدهشة والاستفهامات المونولوجية، حيث جاء على لسان جمشيد مرة أخرى: " لماذا تركوا لندن تحت القصف وجاؤوا إلى الصحراء الشاسعة في الشرق الأوسط تحت ضوء الشمس الحارقة" القرنة: 237. ثمّ تتصاعد الأنا لتصل إلى ذروة الاغتراب المكاني، وحضور المكان الأول، حيث جاء على لسان جمشيد:" أبي في الهند كان يجيد تمليح الجلود ونحن نجلس عليها الآن في الشتاء" القرنة: 213، ويضيف غارقا في وحدته ومنفاه: "وحدي أنا حارس هذا المكان أعرف كل شيء..." القرنة: 228.
ولم يكتفِ القرنة بذلك بل جعل من الكثافة الأنوية ضرورة لنزع القناع عن حقيقة المجتمع ونظرته السطحية إلى المرأة، بل وتهميشها، حيث يقول جمشيد عن زوجه: لم أتحدث مع شيماء بهذا الشأن لأنّها امرأة غبية" القرنة: 252،
ويضيف في موضع آخر : " هذه المرأة لا تقوم بمساعدتي كما ينبغي إنّها زوجتي الغبية" . القرنة: 254. هذا التكرار في الأنا السردية، بيان لعدم اقتناع اجتماعي بفكرة الزواج آنذاك، وتأكيد على عبثية الزواج وتفاهة الحديث عن المرأة باعتبارها جزءا تكميليا فقط، وكذلك كان الشّح الحضوري بضمير الأنا الأنثوي، ليؤكد غياب عدالة حضورها اجتماعيا آنذاك.
ويختتم القرنة كثافة الأنا، حين يسقط المؤشر وتضيع الأنا مرة ثانية وتتوه، ويتضح ذلك ماجاء على لسان جمشيد: " ومرة أخرى تضيعني الأماكن وأتوه ولا أعرف إلى أين أذهب" القرنة : 268. ويمكن القول حينها إنّ القرنة قد وصل إلى تكثيف الأنا من أجل تكثيف معنى الوحدة وتأويل النهايات الروائية، بل وفتح مجالات التخيّل والتأوييل السردي، حيث قال على لسان جمشيد في نهايات الرواية :" مرّت أسابيع وأنا أطلّ داخل النادي لعلّ شيئا يتغير، ولم يتغير شيء ، مرت سنوات ولم يتغير شيء..." القرنة : 276.