الأنباط -
د. حازم قشوع
يعتبر طيف التوحد من أغرب الحالات العلمية التى مرت على البشرية، فهو لا يندرج في نماذج الأمراض الجسدية، ولا يدخل في سياق الحالات النفسية، ولا يقف عند حالات قائمة على أسباب موجبة أو مسببات عرضية، وهذا ما جعله يرسم معادلة متغيرة بالمدخلات والمخرجات كونه لا توحده ارضيه مشتركه لأعراض، ولا تبينه حالات مبينة لمسلكيات، الأمر الذي جعل من حالة التوحد ترسم ميزان متغير ولا يتم وضعها ضمن نموذج محدد اوثابت، كونها كما اعتقد تجريدية وليست تشخيصية، حيث يكون التحديد فى الغالب الأعم للمعادلات التي تستند لاحداثيات وتبين بالبيانات وتظهر وفق معادلة تتوافق فيها أصول المدخلات مع نماذج العلاجات، إلا أن هذه الحالة التي تعرف بطيف التوحد ليست ثابتة بل متغيرة بالأعراض والأطياف للدرجة التى راح فيها العلماء لدراسة كل حالة على حده، وبعد بحوث طويلة استطاعوا ان يصلوا الى سمات لدلائل للتوحد وليس لأعراض الحالات عرفت ب " متلازمة كارنر infantile Autism" التي وضعت حالات التوحد عبر أطياف متباينة وليست متجانسة، وراحت تعزيها هذه النظرية لعدم اهتمام الوالدين بنشات الطفل من باب سوء التربيه، حتى ذهب الذين سبقوا بالدراسة أمثال ليو كارنر لاعزاء السبب للمس الشيطاني أو للتسمم الجسدي الذى لا علاقة له بالدوائر النفسية لكنها جميعها فشلت فى بيان السبب المباشر وراء حالة اضطراب طيف التوحد.
لكن النمساوي اسبرجر ووصف المصابين بالتوحد بأنهم أناس استثنائيين يحتاجوا الى معاملة استثنائية نتيجة علومهم المعرفية العميقة التي تميزهم بالمنزلة العلمية عن غيرهم، لاكنها تبعدهم عن بيوت الخطوط الاجتماعية نتيجة عدم ربط دوائر الوصل المركزية مع المحيط الاجتماعي، وهذا ما جعلهم يعيشون حالة من العزلة ليس حبا فيها إنما لعدم قدرة محيطهم الطبيعي من التواصل مع خصوصيتهم الاستثنائية، وهو ما جعلهم متميزين عن غيرهم بالعلوم بطريقه موجبة لكنهم على غير ذلك في العلاقات الاجتماعية نتيجة عدم اتصال مسارات التواصل الواصلة بين ما يقفون عليه من فكر وما يبنون عليه من نهج موصل للحواضن المحيطة، وهذا ما جعل النماذج العلمية التي يحملون غير قادرة على التواصل مع ما يحيط بهم من نماذج تواصل عادية لا تنسجم مع قدراتهم الاستثنائية التي يقفون عليها، كما لا تتناسب مع قدراتهم العقلية ولا مع طريقة ترسيمهم لا أفكارهم لإنتاج درجة التأثير في الحواضن المحيطة.
وهذا ما يجعلهم يشعرون بالغربة ويذهبون للعزلة نتيجة عدم قدرتهم على التواصل مع المحيط الذي تعيش فيه نماذج الحياة النمطية، وهو ما يجعل من مصابي طيف التوحد يشعرون بالغربة فى مجتمعاتهم تماما كما يشعر بها أهل الفكر والفلسفة عندما يصبح حديثهم مع العامه يقوم على التباين المعرفي الذي يعزي الأمور إلى قشورها ويتم الإمعان بالقشرة على حساب الجوهر وبناء نظريات حولها والابتعاد عن جوهر البيان في بيان المسببات في القضايا العامة، كما فى بعض الحالات الاجتماعية.
حتى جاء ريملاند وبعدها لونا ورنج لتضع سمات "pattern" لحالة التوحد تحوى ثلاث محددات، تبدأ بقصور الخيال عند حامل حالة طيف التوحد، وانقطاع وصل العلاقات بينه وبين محيطه، وتعزى الثالثه لعدم التطور لبيان اللغة، وهذا ما يجعل من مصاب التوحد يصعب عليه بناء منطوق سليم لبيان فهم علاقة الروابط المحيطة، فهو لا يفهم مركبات التجريد حول مشاعر الولاء والإحساس بالانتماء، كما انه لا يعي معنى الروابط المبينة في البيوت الاجتماعية من حوله وبيان درجة التواصل معها، بسبب عدم قدرته لبيان وصل العلاقة بين مركزية العقل مع محتوى بيان رؤيته، وهو ما يجعل نموذج معادلة الربط عنده صامتة وغير ناشطة مع ميزان الحركة المحيطة الوجاهية منها أو الافتراضية، لكنه قد يكون ضليع بالعلوم مهما حملت من تعقيدات وفهيم فى بيان نماذج العمل المعرفية أو مساراتها العلمية.
ولعل اينشتاين ونيوتن اللذان يعتبران من العلماء العباقرة وكانوا يحملون صفة الذكاء الخارق، للدرجة التى كانوا يمتلكون بعض الأعراض التى تفيد بوقوعهم في دوائر أطياف التوحد من حيث منطوق والعزلة حتى قال أحد العلماء أنه لو تم تطبيق نماذج العلم الحديث فى سمات التوحد المبينة لتبين بالمحصلة عبر هذه المعادلات النظرية أنهم على أبواب الإصابة بالتوحد، لكون سمات التوحد بالعارض، تنطبق عليهم بسياقات متباينة، لكن التاريخ خلدهم بخلود علمهم ونظرياتهم الابتكارية التي ما زلنا ننعم بها و نتفيىء بظلالها، تماما كما فعل تسلا عندما قام بتكملة مشوار من سبقه بالعلوم المعرفية وابتكار نماذج من المعادلات الرياضية والفيزيائية.
ولقد وددت عبر هذا المقال ان ارسل رسالة فيها بيان معرفي، وانا اقرا عن التوحد بتعمق هذه الأيام حتى يكون لدي إلمام معرفي بسبب رعايتي لإشهار كتاب للدكتورة سهام الخفش حول هذا الموضوع لابين ثلاثة مفاهيم قد تكون مرتبطة بما نشهده من حالات انفصام فى البيان، بين ما تربينا عليه وما وصل المشهد العام إليه من أمر، حتى باتت أشبه ما يكون بحالة التوحد المعيشي التي نعيش في محيطها، والتى جعلت من ميزان العلاقة بيننا و بين محيط وما نراه مفصومة من شده غرابتها، واما في المقام الثاني فهي ترى درجة التواصل بين مجتمعاتنا ومنظومة العمل بالصناعة المعرفية أشبه ما نكون فيها بالأمية، سيما وقد أصبحت علومها محتكره على فئة من دون العموم حتى أخذت طبع الخصوص بنماذج تفكير مغايرة عن الحواضن الاجتماعية التي نقبع بها.
وهذا ما جعل الهوة تتسع بين مجتمع يمتلك نماذج العلوم المعرفية، وآخر يقبع بحواضن الاستهلاك وهو ما يصيبنا بطيف من أطياف التوحد، أما الثالثة فهى تأتى من شدة متغيرات القيم التي أصبحت تياراتها جارفة وتقوم بعمليات التعرية والتجوية لكل المحددات التشخيصية بدعوى الحفاظ على المعاني التجريدية التي تقوم عليها حالات الحريات فى السلوك والمسلكيات، والتي أخذت ما تكون هادمة لكل الضوابط التي جاءت مع الرسل وبينتها الكتب السماوية مغيرة بذلك ميزان الضوابط الذى كان قد بين محددات استخدام القوة دون غلو تحقيقا لقيم العدالة وإعلاء لرسالة الحق حتى "لا تضيع الحقائقيه في بيان الواقعية"، وتسود مساحة الإباحة الرغائبية على ميزان الضوابط الذي يحفظ الحقوق، وكما تستباح الحرمات مع علو سوط القوة على حساب صوت الحق مع ما نشاهده في محيط الحالة السياسية، ويتم استباحة الحريات بدعوة صادرة عن الحرية، الأمر الذي جعل من العناوين تبدو غير معرفة في بيان العبارة المنطقية وتبدو غير متزنة في بيان الجمل الصرفية عند قراءة العناوين العامة تماما كطيف التوحد عندما يقرن بالحالة السياسية.