الأنباط -
قيس أسامة المجالي
في العالم العربي ، وخاصة هنا في الأردن، نراقب التحولات العميقة التي يمر بها الغرب بفضول وتأمل ووعي نقدي وربما وجل وخوف . لذلك نطالع باهتمام كل من يستشرف هذه التغيرات ويرصدها ويتناولها بالتحليل ومنهم إيمانويل تود، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي البارز الذي ولد لأسرة ذات رأسمال ثقافي كبير في ضواحي باريس عام 1951، وقد تخرج من معهد باريس للدراسات السياسية وحصل على درجة الدكتوراة في التاريخ من جامعة كامبريدج البريطانية ،في العام ١٩٧٦ الّف كتاب " السقوط الأخير " وفيه تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي في ذروة قوته آنذاك ، وهو الآن يطرح في كتابه الجديد " سقوط الغرب " الذي صدر عن دار غاليمار في العام ٢٠٢٤ نظرة فريدة على التحولات الداخلية للمجتمعات الغربية، ليكشف عن اتجاهات وتحديات قد تحمل آثاراً تتجاوز حدود الغرب نفسه. بالنسبة للقراء هنا في الشرق الأوسط، يقدم هذا الكتاب تساؤلات عميقة حول مستقبل النفوذ الغربي وفرص منطقتنا في عالم يزداد توازناً وتعددية.
اشتهر تود لأول مرة في السبعينيات عندما تنبأ بسقوط الإتحاد السوفيتي بناءً على مؤشرات اجتماعية دقيقة. وفي كتابه سقوط الغرب، يركز على التطور الأيديولوجي والاجتماعي في الغرب، ليكشف عن تحولات قد تكون لها انعكاسات بعيدة المدى على منطقتنا، مما يدعونا للتفكير في كيفية مواجهة هذه التحولات.
التحول الديني في الغرب
واحدة من الأطروحات المركزية لتود هي أن الغرب قد شهد تحولات دينية جذرية. حيث يوضح تود أن الهوية الغربية، وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية، كانت متجذرة بعمق في القيم البروتستانتية بعد الإصلاح البروتستانتي. فقد غرس هذا الدين شعوراً بالأفضلية الإلهية، مما جعل المجتمعات الغربية تنظر إلى نفسها على أنها "مختارة". لكن مع مرور الوقت، ضعفت هذه القيم الدينية، ليتحول المجتمع إلى حالة "العزلة الدينية" أو العلمانية الكاملة. واليوم، أصبح تأثير الدين في الغرب ضئيلاً، وحلت القيم العلمانية والأهداف الاقتصادية مكان العقائد الدينية التي كانت تشكل الهوية الثقافية الغربية.
يعد هذا التطور من مجتمع ديني إلى مجتمع علماني أمراً يستحق الانتباه بالنسبة لنا في الأردن والعالم العربي، حيث لا تزال الديانة تلعب دوراً أساسياً في الحياة اليومية وتوجه الأطر الأخلاقية والقيم المجتمعية. تدعونا تحليلات تود إلى التأمل في دور الدين في مجتمعاتنا وكيفية تأثير العوامل العلمانية علينا مع استمرار تقاطع القيم الغربية مع ثقافاتنا مع ما يخلق هذا من تصادم وتناقض في بعض الأحيان .
تحول أمريكا إلى الأوليغارشية والعدمية
تصوير تود للمجتمع الأمريكي يأتي مثيراً للقلق وكاشفاً عن واقع مظلم. يرى تود أن أمريكا ابتعدت عن النموذج الديمقراطي وتحولت إلى ما يشبه الأوليغارشية، حيث تتركز السلطة والثروة في أيدي فئة ضيقة من النخبة، مما يترك السكان في حالة من العزلة والتفكك. ويربط تود هذه الأوليغارشية بنوع من "العدمية"، حيث بات المجتمع يعاني من إحساس جماعي بانعدام الغاية، وهو ما يفسر الانقسامات الاجتماعية وتصاعد العنف، بما في ذلك حوادث إطلاق النار الجماعي.
وكذلك نشوء وازدهار مجموعات اجتماعية ضيقة — مثل نوادي الدراجات النارية أو المجتمعات التكنولوجية في وادي السيليكون — وكل هذا يعكس نوعاً من الانهيار الاجتماعي والتفكك ، حيث يجد الأفراد انتماءهم في مجموعات صغيرة ومعزولة بدلاً من المجتمع ككل . بينما هنا في الأردن ؛ حيث تظل الأسرة والمجتمع الدعامة الأساسية للهوية، لذلك من اللافت للنظر أن نشهد كيف يبدو أن الهدف الجماعي لأمريكا يتآكل ويفشل ، وهذا يترك تحدياً كبيراً امامنا لما لتأثير الولايات المتحدة على حكوماتنا وسعيها في العقود الماضية لانتاج ثقافة بديلة عن تلك السائدة في مجتمعاتنا بدعوى التقدم والانفتاح . بالنسبة لنا في الأردن والعالم العربي، يقدم تحليل تود تذكرة بأهمية الروابط المجتمعية والثقافية في عالم يزداد عولمة وتوحشاً .
تحول الغرب من الديمقراطية الليبرالية إلى الأوليغارشية
في نقده للحكم الغربي، يزعم تود أن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، قد تخلى عن الديمقراطية الليبرالية وتحول إلى ما يسميه "الأوليغارشية الليبرالية". كانت الديمقراطية الليبرالية تحمي حقوق الأقليات وتشجع على التمثيل المتساوي. ولكن تود يؤكد أن النظم الغربية اليوم تخدم مصالح الأثرياء والنخبة فقط، مما يقوض القيم التي كانت تسعى لتحقيق مجتمع عادل ومتوازن.
بالنسبة لنا في العالم العربي يُحدث هذا التطور بالتقييم واتخاذ القدوة من الديمقراطية الغربية ثمّ تخلخلها وانحرافها بهذا الشكل تشويشاً حقيقياً على ديمقراطياتنا الناشئة والمتعثرة أصلاً وبالتالي يسهم منظور تود في إبراز هشاشة الأنظمة الديمقراطية أكثر فأكثر خاصة إذا كانت تفتقر إلى التمثيل الحقيقي. وفي الأردن، حيث ندمج التقاليد التاريخية بالحكم والشورى مع مبادئ الحكم الحديث ومعايير الحداثة ، حيث توجد عبرة في ما يصفه تود حول مخاطر تركيز السلطة والثروة بيد واحدة ومخاطر هذا المآل . وبينما يتم التسويق للنموذج الديمقراطي الغربي كمثال يُحتذى به لحل هذه المعضلة المزمنة ،يبين نقد تود أن الديمقراطية الغربية الآن تواجه تحدياً واضحاً مع وجود مؤشرات كثير تظهر الانحياز الغربي الفاضح تجاه شعب بعينه او قضية بذاتها دون التزام حقيقي بالمساواة وهذا يحوّل كل الديمقراطية الغربية إلى قشرة فارغة ومنافقة معاً .
التأثيرات المحتملة على الشرق الأوسط: عصر جديد من النفوذ؟
يمتد تحليل تود إلى ما وراء الغرب، ليطرح تساؤلات حول الدور المستقبلي للشرق الأوسط في ظل التغيرات العالمية. يتوقع تود مسارين محتملين للمنطقة، مع استمرار تراجع النفوذ الغربي واتساع نطاق العلمانية.
في العشر سنوات المقبلة: يتوقع تود أنه مع تركيز المجتمعات الغربية على قضاياها الداخلية، قد يقل نفوذها في الشرق الأوسط، مما يفتح فرصاً لقوى إقليمية مثل تركيا وإيران والسعودية لتشكيل الديناميات السياسية في المنطقة. يمثل هذا التوقع رؤية مهمة بالنسبة لنا في الأردن والدول المجاورة: كيف يمكننا الاستعداد لبناء نفوذ محلي أكبر في ظل تراجع الحضور الغربي؟
في الخمسين عاماً القادمة: على المدى الطويل، يقترح تود أن الشرق الأوسط قد يصبح لاعباً رئيسياً في النظام العالمي، خاصة مع تزايد علمانية المجتمعات الغربية وتزايد تركيز الثروات. قد تعيد الدول الغنية بالموارد والموقع الاستراتيجي تعريف دورها، متجاوزةً الاعتماد على التحالفات الغربية. يعتقد تود أن دولاً مثل الإمارات قد تكون نموذجاً في مزج الثروة بالحداثة مع التقاليد، مما يظهر كيفية تعامل دول الشرق الأوسط مع هذه التحولات المعقدة.
دعوة للاستعداد لنظام عالمي جديد
يقدم تحليل تود في سقوط الغرب للقراء الأردنيين والعرب فرصة لإعادة التفكير في المستقبل. تذكرنا ملاحظاته بأننا أيضاً جزء من قصة عالمية أوسع. مع مواجهة المجتمعات الغربية للانقسامات الاجتماعية والتحولات الأوليغارشية، قد تجد منطقتنا فرصاً لتعزيز تأثيرها وتشكيل دور جديد لها على الساحة الدولية.
في الأردن، نحن في موقع جيد لاحتضان مزيج فريد من القيم التقليدية والرؤى الحديثة، مستندين إلى تاريخ غني وصمود واضح لمجتمعاتنا. يدعونا عمل تود إلى التفكير في كيفية تطور مجتمعنا استجابةً للتغيرات العالمية، مع الحفاظ على الأطر الثقافية والدينية التي تحدد هويتنا دون التفريط بها .
في النهاية، سقوط الغرب ليس مجرد نقد للمجتمع الغربي، بل هو دعوة للشرق الأوسط ليتوقع نظاماً عالمياً متغيراً. بالنسبة لنا هنا في الأردن والعالم العربي، إنه تذكير بقدرتنا على تشكيل مستقبل يحترم تراثنا، وفي نفس الوقت يتكيف مع متطلبات العصر الحديث.