الأنباط -
فواز الخلايلة
تعد رواية جبل التاج للمؤلف الأردني مصطفى القرنة من الأعمال الأدبية البارزة التي تتناول تاريخ الأردن الحديث بأسلوب روائي يدمج بين الأحداث السياسية والاجتماعية وبين الحياة اليومية في عمان في بداية القرن العشرين. في هذه الرواية، التي تتسم بالثراء التاريخي والروائي، يتناول القرنة تطورات حاسمة في تاريخ الأردن، بدءًا من مرحلة سيطرة الدولة العثمانية على المنطقة، وصولًا إلى مرحلة الاستقلال الأردني والتغييرات الكبيرة التي شهدها المجتمع الأردني في ظل الانتداب البريطاني وتأسيس المملكة الأردنية الهاشمية.
تمثل الرواية مزيجًا رائعًا بين السرد التاريخي والرؤية الاجتماعية العميقة، حيث تعرض صورة حية عن التحولات الكبرى التي مرت بها الأردن في بداية القرن العشرين. من خلال هذه الرواية، يعكف القرنة على استكشاف العلاقة بين البدايات والنهايات، وكيف أن كل بداية تحمل بذور التغيير والنهاية تُمثل تحولًا جذريًا في المجتمع والهوية الوطنية.
البدايات في رواية "جبل التاج"
تبدأ أحداث رواية جبل التاج في بداية القرن العشرين، حيث يتطرق مصطفى القرنة إلى عدد من التحولات الكبرى التي كانت تُؤثر في المجتمع الأردني، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي. إن هذه البدايات ليست مجرد تمهيد لسلسلة من الأحداث، بل هي أداة يستخدمها الكاتب لخلق صورة تاريخية واقعية للمجتمع في تلك الحقبة، وتحليل تأثير الأحداث الكبرى على الحياة اليومية للمواطنين.
في أول فصول الرواية، يعرض القرنة صورة للمدينة الأردنية عمان في أوائل القرن العشرين، وهي مدينة تشهد تحولًا حضريًا وتطورًا ملحوظًا. يشير الكاتب إلى أن عمان كانت في تلك الفترة مدينة صغيرة تنمو بوتيرة بطيئة، ولكن مع دخول سكة حديد الحجاز إلى المدينة، حدث تحول جذري في طريقة الحياة والتواصل بين المدن والمناطق.
سكة حديد الحجاز:
تعتبر سكة حديد الحجاز أحد العناصر الأساسية التي افتتح الرواية بها، حيث يركز القرنة على تأثير هذا المشروع العثماني الضخم على حياة الناس في المنطقة. ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، ولكن أيضًا على الصعيد الثقافي والاجتماعي. سكة حديد الحجاز كانت تمثل في نظر الأهالي فرصة للتطور والتمدن، ونافذة جديدة للتواصل مع العالم الخارجي.
لكن، رغم الفوائد الاقتصادية والتجارية التي جلبتها السكة، فإن القرنة لا يغفل الجانب السياسي لهذه الخطوة. فمشروع سكة الحديد كان يعكس التوسع العثماني ومحاولة السيطرة على المنطقة، وهو ما يتوازى مع التحولات السياسية في ذلك الوقت، حيث بدأ يتضح ضعف الإمبراطورية العثمانية في الحفاظ على هيمنتها في الأراضي العربية.
من ضمن البدايات التي يتناولها القرنة في روايته، وصول الشركس إلى عمان. يُعَرِّف القرنة هذا الحدث كأحد العوامل المؤثرة في تاريخ عمان الاجتماعي والثقافي. الشركس، الذين تم نقلهم إلى الأراضي الأردنية في إطار سياسات الإمبراطورية العثمانية، كانوا يمثلون طبقة اجتماعية جديدة جلبت معها تقاليد وثقافات جديدة .
وسط المدينة:
كانت وسط عمان في بداية القرن العشرين، كما يشير القرنة في روايته، عبارة عن مركز حضري صغير لكنه يعكس النمو السكاني السريع والتطورات المدنية. يصف القرنة كيف أن عمان كانت مدينة تتغير بوتيرة سريعة، حيث أن الطابع التقليدي للمدينة كان يشهد تداخلًا مع الطابع الحديث. تجسد المدينة وسطًا اجتماعيًا يتم فيه جمع العادات القديمة مع مظاهر التحضر الحديثة.
النهايات في رواية "جبل التاج"
نأتي الآن إلى دراسة النهايات في الرواية، وهي تتعلق مباشرة بتحولات كبيرة في الأردن بعد انتهاء الانتداب البريطاني وتحقيق الاستقلال. ومن خلال النهايات، يسلط القرنة الضوء على قضايا حاسمة تتعلق بسيادة الأردن، حيث تنتقل الرواية من مرحلة الاستعمار والتبعية إلى مرحلة السعي نحو الاستقلال والتحرر الوطني.
الاستقلال الأردني:
واحدة من أبرز النهايات التي يتناولها القرنة هي نهاية الانتداب البريطاني على الأردن، وتحقيق الاستقلال في عام 1946. كانت هذه النهاية بمثابة نقطة تحول فارقة في تاريخ الأردن، حيث تحولت المملكة الأردنية الهاشمية إلى دولة ذات سيادة تحت حكم الملك عبد الله الأول. تُعد هذه اللحظة مفصلية في تاريخ الأردن، وتعكس بشكل كبير تطور الأحداث السياسية والاقتصادية التي كانت قد بدأت في بداية القرن العشرين.
يصف القرنة في روايته التغيرات التي حدثت في تلك الفترة على مستوى القيادة السياسية، حيث أصبح الملك عبد الله الأول رمزًا للاستقلال والسيادة الوطنية. يظهر الاستقلال في الرواية على أنه تحقيق لآمال وتطلعات الشعب الأردني الذي كان يعاني من الاضطهاد السياسي والاقتصادي تحت الاحتلال البريطاني.
من بين القضايا التي يتناولها القرنة في روايته هو موضوع نادي الإنجليز في عمان، والذي كان يمثل رمزًا لوجود النفوذ البريطاني في الأردن خلال مرحلة الانتداب. هذا النادي كان محط أنظار الكثير من الأردنيين، باعتباره مركزًا من مراكز السيطرة البريطانية في المدينة. يشير القرنة إلى العلاقة بين البريطانيين والسلطات المحلية، وكيف أن هذه العلاقة كانت تشوبها التوترات والمصالح المتضاربة، مما أسهم في تحفيز الحركة الوطنية في الأردن.
إحدى التحولات الكبرى التي يتحدث عنها القرنة هي تعريب الجيش الأردني، وهي خطوة كانت تمثل تحديًا كبيرًا للنفوذ البريطاني، وتعد خطوة أساسية نحو تعزيز السيادة الأردنية. يعتبر تعريب الجيش علامة فارقة في الرواية، حيث يعكس رغبة الأردن في بناء مؤسسات وطنية مستقلة بعيدًا عن السيطرة البريطانية. هذه النهاية تُمثل بداية جديدة للأردن كدولة ذات سيادة مستقلة.
بين البدايات والنهايات
يمكننا أن نرى من خلال دراسة البدايات والنهايات في رواية جبل التاج كيف أن القرنة يبني روايته على أساس التغيرات المتتابعة التي تشهدها المنطقة. إن البدايات في الرواية، مثل قدوم سكة حديد الحجاز، ووصول الشركس إلى عمان، وتطورات الحياة في المدينة، جميعها تمثل مكونات أساسية لبنية اجتماعية وثقافية شهدت التحولات السياسية الكبرى. في النهاية، ترتبط هذه البدايات بنهايات سياسية حاسمة مثل الاستقلال وتعريب الجيش.
إن التفاعل بين البدايات والنهايات في جبل التاج لا يقتصر على عرض سردي للأحداث التاريخية، بل يمتد ليشمل التأثيرات الاجتماعية العميقة التي نتجت عن تلك التحولات. كل بداية تمثل بداية مرحلة جديدة في تاريخ الأردن، بينما كل نهاية تشير إلى طموح وتطلعات الشعب الأردني نحو السيادة والحرية.
رواية جبل التاج هي سرد تاريخي واجتماعي رائع يدمج بين تطورات سياسية محورية وتجارب حياتية شخصية. من خلال البدايات والنهايات، يعكس مصطفى القرنة صورة حية ومعقدة للواقع الاجتماعي والسياسي في الأردن خلال بداية القرن العشرين. ومن خلال هذه الرواية، نفهم كيف أن التحولات السياسية الكبرى في الأردن كانت تتداخل مع التغيرات الاجتماعية والثقافية التي كانت تحدث في المدينة، وكيف أن كل بداية كانت تؤدي إلى نهاية تحمل معها تغييرًا جذريًا في مسار تاريخي طويل.