الأنباط -
صنع السياسات والبصائر السلوكية
م .زيد خالد المعايطة
باحث في صنع السياسات والبصائر السلوكية –
كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية
شهدت الحضارة البشرية خلال العقد الأخير تحولات جوهرية في منهجيات صنع السياسات العامة، التي أصبحت تتطلب فهماً أعمق وإلماماً واسعاً بالتحديات والفرص التي تواجه المجتمعات. عبر التاريخ، كانت القرارات السياسية تستند بشكل كبير إلى البيانات والإحصاءات والتحليلات الاقتصادية، ما يعني الاعتماد على معلومات الماضي لتوجيه الحاضر والمستقبل. إلا أن التقدم في علوم السلوك أدى إلى إحداث تغييرات جذرية في هذا النهج، حيث بات من الضروري إدراك الدور الذي تلعبه العوامل السلوكية في تشكيل سياسات أكثر فعالية واستدامة.
في الآونة الأخيرة، ظهرت تحولات جذرية في سلوكيات الأفراد نتيجة للتغيرات الكبيرة التي شهدها العالم على مختلف الأصعدة. ومع توسع نطاق انتقال المعلومات وسرعته، برزت "علوم البصائر السلوكية" كأداة أساسية في تصميم السياسات الحديثة. أسهمت هذه العلوم في تمكين صانعي السياسات من فهم كيفية تفاعل الأفراد مع القوانين والتشريعات، وتطبيقها بناءً على سلوكهم الفعلي وليس المفترض.
في سياق السياسات الحكومية، تُعرَّف "البصائر السلوكية" بأنها عملية تركز فيها الحكومات على دراسة السلوك البشري ومحاولة فهمه بعمق. يتيح ذلك وضع سياسات تتماشى بشكل أكثر واقعية مع احتياجات المجتمع، ما يؤدي إلى إدخال مجموعة من التأثيرات السلوكية التي تهدف إلى تحسين النتائج المرجوة وتحقيق الأهداف الاستراتيجية بشكل أكثر فاعلية ونجاحاً.
تعتمد البصائر السلوكية على علم النفس السلوكي والاجتماعي وأدوات الاقتصاد السلوكي لفهم كيفية اتخاذ الأفراد لقراراتهم، سواء في حياتهم الشخصية بشكل عام أو في القرارات المالية بشكل خاص. تهدف هذه البصائر إلى الكشف عن الدوافع الخفية والتحيزات (Biases) التي تؤثر على السلوك البشري. فعلى سبيل المثال، لا يتخذ الأفراد دائماً قرارات عقلانية؛ بل قد يتأثرون بالظروف المحيطة التي تؤطر الخيارات المتاحة أمامهم، أو بالضغوط الاجتماعية، أو بالمؤثرات العاطفية، مما يؤثر على كيفية تفاعلهم مع السياسات العامة.
ومن خلال دمج البصائر السلوكية في عملية صنع السياسات عبر مختلف المجالات، يمكن للحكومات تصميم تدخلات أكثر فعالية وأقل تكلفة. على سبيل المثال، تم تطبيق تقنيات السلوكيات المحفزة لتحسين معدلات دفع الضرائب، وزيادة حجم التبرعات، وتعزيز الامتثال للقوانين البيئية. غالباً ما تعتمد هذه التدخلات على تقنيات بسيطة مثل إعادة تأطير الرسائل، تبسيط عمليات الإبلاغ، أو تقديم حوافز صغيرة، مما يؤدي إلى تغييرات سلوكية كبيرة.
يعد هذا الدمج بين العلوم السلوكية والسياسات العامة خطوة حاسمة نحو تطوير سياسات حكومية أكثر واقعية تستند إلى سلوك الأفراد الفعلي، وليس الافتراضات النظرية، مما يسهم في تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة.
أمثلة على السياسات المبنية على البصائر السلوكية:
• التشجيع على الادخار : في بعض الدول تم تصميم برامج ادخار تعتمد على خيارات تلقائية للمشتركين (Default Option)، حيث يتم تسجيل انتساب الموظفين تلقائيًا في خطط ادخار معينة مع افساح المجال امام إمكانية الانسحاب في حال عدم الرغبة باسلوب التسجيل التلقائي،حيث يُعرف هذا الأسلوب بالتنبيه (Nudge)، وقد زاد هذا النهج بشكل كبير بارتفاع معدلات الادخار.
• التوعية الصحية :ساهمت برامج البصائر السلوكية في تحسين سلوكيات الافراد بما يخص الصحة العامة ، مثل تعزيز الالتزام باخذ المطاعيم وتقليل استهلاك الأطعمة الضارة ، فقد تم استخدام وسائل مثل إرسال رسائل واشعارات تذكير شخصية ، اضافة لتغيير اساليب عروض الاختيارات الصحية في المطاعم والفنادق والتي ساهمت بتحقيق نتائج واضحة، كما ساهمت هذه البصائر في تشجيع المواطنين على ممارسة الرياضة من خلال استراتيجيات متنوعة تعزز الوعي الصحي وتدعم نمط ممارسة كافة اشكال التنشيط البدني للافراد.
• الامتثال البيئي :ساعدت الدراسات السلوكية في تعزيز الامتثال للسياسات البيئية من خلال استخدام تقنيات مثل إعادة تأطير وتوضيح وتبسيط المعلومات (Framing) المتعلقة بفوائد التزام الأفراد باحترام القوانيين على النظام الاجتماعي .
على الرغم من الفوائد العديدة للبصائر السلوكية في صنع السياسات، هناك بعض التحديات التي يجب أخذها في الاعتبار، من بين تلك التحديات، الحاجة إلى تحقيق توازن بين التأثير على السلوك وحماية حرية الأفراد في اتخاذ قراراتهم مما يتطلب دراسة متعددة للجوانب الاخلاقية لفلسفة تطبيق البصائر السلوكية، بالإضافة إلى ذلك يعتمد نجاح مبدأ البصائر السلوكية على الفهم العميق للسياق الثقافي والاجتماعي الذي يتم تطبيق ذلك من خلاله.
في المقابل، هناك فرص هائلة لاستخدام هذه البصائر بطرق أكثر إبداعًا وتأثيرًا، مثل تعزيز التعاون الدولي لحل القضايا العالمية التي تخص سلامة وامان البشرية كتغير المناخ والفقر والصحة العامة.
إن إدماج البصائر السلوكية في صنع السياسات يمكن أن يحدث تحولًا جذريًا في كيفية تصميم وتنفيذ السياسات العامة. مع تزايد التحديات العالمية وتعقيداتها، أصبح من الضروري استخدام أدوات مبتكرة، مثل البصائر السلوكية، لتحسين حياة الأفراد وتعزيز رفاهية المجتمع.