كما هو متوقَّع، بشَّرَ جيروم باول، رئيس البنك الفيدرالي الأمريكي، من ندوة قاعة جاكسون في كنساس سيتي، ببيان تحفيزي تبشيري مفاده أنَّ الوقت قد حان للتحوُّل نحو تخفيضات في سعر الفائدة. وقد توافد العديد من محافظي ورؤساء البنوك المركزية للاستماع إلى التوجُّهات والتوجيهات الجديدة، للبدء بالإعداد للتنفيذ، كلٌّ في نطاقه ومنطقته.
الغريب أنَّ اجتماعات جاكسون هول انطلقت هذا العام تحت شعار «استقلالية البنوك المركزية». بيد أنه في ظل تثبيت سعر الصرف إلى الدولار، وتبعية معظم البنوك المركزية في العالم لتوجُّهات وإشارات واجتماعات وسلوكيات البنك الفيدرالي الأمريكي، يبقى السؤال: ما المعيار الحقيقي لاستقلالية سياسات البنوك المركزية تلك؟ هل المعيار هو استقلالية البنوك وسياساتها عن اقتصادها وحكوماتها وتبعيتها فقط للتوجُّهات التي تحكم سياسات البنك الفيدرالي الأمريكي، الذي بدوره تحكمه توجُّهات ما يُسمّى «لجنة السوق المفتوحة»، أي اللجنة التي تدرس اتجاهات أسعار الفائدة في ظل مستهدفات التضخُّم والبطالة في الاقتصاد الأمريكي، وليس العالمي؟ وبالرغم من المكتسبات الكبرى للحفاظ على الاستقرار النقدي الذي حقَّقه العديد من الاقتصادات عبر تثبيت سعر صرفها إلى الدولار الأمريكي من خلال بناء احتياطيات أجنبية، وبخاصة الدولار، وبالرغم من أنَّ الكثير من تلك الأرصدة لم تتولَّد عن مصادر وطنية مستدامة، وبالرغم من حالة العولمة الاقتصادية التي يعيشها العالم، خاصة عندما ترتفع حرارة الاقتصاد الأمريكي فترتعش لذلك الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على حدٍّ سواء، فإنَّ الواقع العملي والمنطقي والعقلاني يحتِّم أن تتحقَّق الاستقلالية الحقيقية للاقتصادات العالمية، وهو ما دعا بعض الاقتصادات المتقدمة في أوروبا للخروج من دوامة تثبيت أسعار الفائدة والتسخين لخوض دورة التخفيض قبل تلقّي توجُّهات جيروم باول.
الشاهد أنَّ سياسات تثبيت أسعار الصرف أثبتت نجاعتها في فترات عديدة، وأدَّت إلى حماية الاستقرار النقدي في العديد من الاقتصادات، إلا أن تلك السياسات طغى عليها أيضاً التخلّي عن استقلالية البنوك المركزية في تحديد أسعار الفوائد، وفي مراعاة مسافة محسوبة بعيداً عن التبعية الكاملة والحرفية للأسعار المحددة من الفيدرالي الأمريكي، وخاصة حينما يأتي الأمر إلى خصوصية الاقتصاد ومؤشراته الكلية في التضخُّم والبطالة. ولعلَّ النماذج العديدة في مصر ولبنان وتركيا تنطق بالدهن وصِبغٍ للمشكِّكين.
استقلالية البنوك المركزية مبدأ شمولي متكامل، والحفاظ عليها من براثن التدخُّلات الحكومية مهم ومعنوي، ولكنها أيضاً مهمة في الانعتاق من التبعية لسياسات تبعية أخرى تغذي وتلبّي أهداف اقتصادات عالمية هي في أَمَسِّ الحاجة إليها. ويبقى السؤال: هل سيستمر العالم بنظام النقد الدولي الحالي؟ وهل سيبقى الدولار العملة الوحيدة للتسويات الدولية؟ الإرهاصات العالمية، والتكتلات الجدية، والعملات الرقمية، وأنظمة التسويات المقبلة تقول إنَّ ذلك سيكون مستحيلاً خلال عقد من الزمان على أقصى تقدير، لذا فإن الاستشراف المستقبلي الناجع يحتم على البنوك المركزية أن تبدأ في إعداد اختبارات ضغطStress Testing تمكِّنها بالفعل من أن تُحقِّق استقلاليتها، وتحقِّق أهدافها الوطنية في الحفاظ المُستدام على الاستقرار النقدي.
* بروفيسور خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
khwazani@gmail.com