الأنباط -
سليم النجار
وُلد الأسير حسام الديك عام ١٩٨٦ في قرية كفر الديك قضاء سلفيت، وحصل على درجة البكالوريوس والماجستير في القانون من جامعة بيرزيت، وهو محامٍ مزاول في نقابة المحامين الفلسطينيين، اعتُقِل ثلاث مرات على خلفية التحريض على الاحتلال الصهيوني، ويقبع في المعتقل منذ عام ٢٠٢٠.
صدر له كتاب "المصالحة الفلسطينية ومحنة البحث عن مخرج" وكتاب "دليل المتاهة" الصادر عن دار الجندي عام ٢٠١٦، وكتب رواية "المُرافعَة" الصادرة عن الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين بالتعاون مع هيئة الأسرى المحررين عام ٢٠٢٣.
عندما نقرأ رواية تحيّة الحق "المُرافعَة"، نجد أن العنوان مذكور بطريقة تبدو واضحة لا تحتاج لكثير من العناء، ولكن نجد أن النمطية المألوفة قد تقطّعت أمامنا، لذلك، سنضطر إلى التنقيب عن شيفرته الرمزيّة الخفيّة، وذلك في ضوء معطيات التحليل العام للنص، وليس للعنوان فحسب..
"وتمر الأيام إيغالًا في العمر، وقد صارت أسئلتنا الفطرية أكثر نضوجًا، وكان قد ترسّب في الذاكرة كمٌّ لا بأس به من المعرفة والتربية الوطنية، وصار بالإمكان فهم أنّ ما يدور الآن هو صراعٌ بيننا وبين الاحتلال، وهذا الصراع يستوجب المقاومة الشرسة".
أعتقد أنّ تفكيك العنوان وإعادة تركيبه، لن ينسجم مع أي محاولة للقراءة النمطية، بل ستندرج النتائج حتمًا في خاتمة العبث، ولكن عندما نعالج العنوان في ضوء المعطيات التحليلية العامة التي توصّلنا إليها من خلال هذه القراءة، سنجد أنّ هناك انسجامًا عجيبًا، ففي النهاية، وفي تحليل رمزية السارد، فإنّ العمر الذي عاشه هو العمر الحقيقي الذي كان فيه، وإنّ الأسئلة هي بوصلة العمر، فقد راهن السارد على ما حدث في ظلام الوطن، إذ أنّ شبح الأسئلة جعله يؤمن بضرورة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بشراسة.
إنّ صعود السارد إلى قمة التساؤل بغية الاتحاد السيكولوجي مع شطره في المعتقل الإسرائيلي، هو عودة من الموت إلى الحياة، لاحِظْ أنّ هذه الصورة قد صادفها السارد فور دخوله المعتقل، وهذا يعني أنّها صورته الأولى في السرد الباطني المُتَوَخّى، أمّا بعد اعتقاله فإنّ السرد أصبح نمطيًّا، حيث أُوهِم السجّان بأن السارد غير مسؤول عن عدم معرفته عن رفاقه.
وبما أنّه غير مذنب بهذا المعنى، بل كان طوال فترة التحقيق يقوم بسرد حكايته مع السجّان، فهذا يعني أنّ السجن هو موتٌ وهمي، لأنه موتٌ قرائي، وليس كتابي، وهذا ما ذكره في النص الآتي:
"الوقت يمر، وأحسب الضابط الآن يحدّق في ساعته، وأنا أقول في سرّي: يا الله لو تتاح لي القدرة على إغواء الوقت فيمر ببطء على هذه اللحظات الثقيلة، فلا يداهمني قبل أن أطبع قبلة الوداع على خديها، أو قبل أن أقدّم لهم اعتذاري عن الوفاء بوعد قطعته على نفسي أمامهما منذ يومين بأن أرافقهما إلى مدينة ألعاب الأطفال في رام الله".
وهذا يعني أن السارد لم يتعامل مع الحدث كزمن فحسب، وهو ما نتج عنه بالضرورة أنّ المحقق لم يفقه شيئًا من سرد الحكاية، فقد راهن على مقروئيّة النص، وهو البعد الباطني الذي ترمز إليه غرفة التحقيق وما فيها من أفكار السارد، إذ أنّ النص المُراهَن على مقرؤيّته من طرف السارد، والذي لم يفقه المحقق منه حرفًا، هو النص الذي تم سرد أحداثه في غرفة التحقيق، وبهذا يكون المحقّق قد فشل كليًّا في فهم العالم الباطني الذي كان يعيشه السارد..
"الزمن البديل يعني أنك تستعين وتستعيد عبر خيالك وذهنك شريط الذكريات والأحداث الحقيقيّة التي عشتها وحصلت معك قبل عملية الفصل، وتحصل هذه العملية الذهنية لسدّ الفراغ الذي سبّبته عملية الفصل الزماني التي تعرّضت لها منذ دخولك هذه الأداة، لكنّها استعادة واستعانة مؤقتة وغير مستقرّة، يُفسِد استقرارها الحضور المتكرّر للسجّان عبر الممرّات، هذا الحضور إلى حالة اللازمان داخل اللامكان هذا".
وهذا يترتّب عليه رمزيًّا فشل المحتل في تعريف الزمن حسب مفاهيمه، كذلك عند الحديث عن السجّان كسرد نمطي، وما ذهب إليه السارد هو تفخيخ المشهد الدرامي من ألفِه إلى يائِه، بحيث يكون شبه مستعصٍ أمام محقق كسول.
ختم الكاتب الأسير حسام الديك سرده بأنّه ترك لغزًا مثيرًا للتساؤل، وهذا اللغز يكمن في التعارض القائم بين ما أدلى به وبين المحقق الذي أراد النيل منه وجعل سرد الأسير جثة هامدة لا حياة لها، ممّا يعني انشطارًا عجيبًا بين الحياة والموت، فكلا المحقق والسارد لهما مفاهيمهما الخاصة بالحياة، فالأوّل يتعامل مع التحقيق كوظيفة، والثاني الحياة تعني له حريّة وطنه والتخلص من المحتل.
وحتّى تكتمل هذه الرؤية، سأكتب العبارة التي تشير لذلك، حيث ورد في الرواية:
"السادسة صباحًا: نتجه جنوبًا إلى سجن نفحة، بعد ساعات أجدني في قسم ١٠ غرفة ٤٣ أتعرف على الزملاء الجدد، وجميعهم من أحكام المؤبدات، من النادر أن تصادف ثلاثة أسرى في نفس الغرفة محكومين بالمؤبد ويحملون ذات الاسم "يوسف"، تمتمتُ وقلت في نفسي: يوسف إلى أن تأتي السيارة".
لاحِظْ أنّه عندما استجاب السارد لذلك الاسم، فإنّه يشير لقصة سيّدنا يوسف الذي تم محاولة التخلّص منه والادّعاء بأنّ دمه شاهد على موته، والفاعل هنا الأخوة، فمن الفاعل في حالة يوسف الفلسطيني؟، ترك الكاتب معرفة الفاعل للمتلقي، وبذلك تخلّص من الإجابات الجاهزة والمعلّبة.
وبعد أن تمكّن السارد من رؤية أصدقائه الجدد، أصبح من المناسب أن يرى قادم الأيام، أي أصبح هناك مجال للعودة بشكل أسرع! هذا في حين كان الأمر يتعلق بالسير على الأقدام في الحلم، وعلى مستوى البنية الأكثر عمقًا، نجد أن السارد قد ابتعد كثيرًا عن نفسه أثناء سرده تلك الاحداث..
"في الفورة آمال وآلام تدّب على الأرض، تمارس الذهول والدهشة، وأحاديث جانبية عن مواعيد المحاكم وعن وعودات المحامين بإفراج مبكر وعن قسوة الاعتقال والتحقيق وعن قصص الوقوع في فخ العصافير ودهاليزهم وأحاديث أخرى تدفع إلى الأسى والحزن".
ومن هنا، وبعد فشل المحتل الإسرائيلي في قراءة الأسير ثقافيًا، يمكن إعادة إنتاج العنوان كالتالي: تحية الحق والعروبة-المُرافعَة، إذ أنّ التمثيل الإبداعي لظاهرة الأسرى الفلسطينيين تعتبر أصدق تمثيل إبداعي، وذلك لكونه نابعًا من الذات جدليًّا، وليس من الآخر ميكانيكيًّا، فهذا يعطي لرواية تحيّة الحق والعروبة-المُرافعَة مصداقيّتها الإنسانية.