الرَشْتَه السياسية
الرشته هي طعامٌٍ ليبيٌّ لذيذ تختلط مكوناته لتجعلهُ أكثرَ رونقاً من "البازين"العصيدي واضح الملامح. و لِكُلٍّ معجب.و الليبيون غير مغرمون بالأسماك، للعلم، مع إطلالتهم علي الأبيض المتوسط بمسافةٍ تقل قليلاً عن ٢٠٠٠ كيلومتر، فهم أكلةَ لحوم خاصةً الجمال، لكن السمكةً المحمَّرة تجلبُ الاهتمام.و القِدِّيدُ من شرائح لحوم الأضحية ضرورةٌ مطبخية، كما مقروض العيدين.المطبخ الليبي متوهجٌ بالمكونات يسافر من عميق الصحراء الكُبرى للشواطئ البحرية و من مروج الشرق و جبال الغرب ليجمع الليبيين دون عناءٍ يُذْكر فمهارة المطبخ من مهارة من يطبخ والمكونات اللذيذة من خيرات البلاد و النفس الليبية طيبة.
لكن هذا لا ينطبق علي المطبخ السياسي الليبي في الوقت الحاضر!
"تتمتع"ليبيا اليوم بحكومتين واحدة في طرابلس والثانية من صنع بنغازي و رئيسها من زعماء مدينة مصراتة التي في الثورة علي القذافي تمددت نفوذاً و قوةً.يجلس عبد الحميد الدبيبة في طرابلس الغرب رئيساً للوزراء و غريمه، المعين رئيساً للوزراء كذلك، فتحي باشاغا، و عينه برلمانٌ يرأسهُ عقيلة صالح منذ سنين عديدة في الشرق الليبي. وينضم لهم خليفة حفتر و في الخلفية سيف الإسلام القذافي الطامحيْنِ للرئاسة بلا هوادة و هم في الشرق كذلك.ثم هناك عشرات المجموعات المسلحة المنفلتة في أرجاء ليبيا و في العاصمة الذين يجعلون الرشتة و البازين السياسيين طعاماً من غير طعم، بل قد يرقى لمستوى السم.
يطلقون علي الوضع الليبي "المراحل الانتقالية"تفاؤلاً بأن تنتهي السيطرات الجهوية بين الغرب و شرق الغرب و الشرق بليبيا واحدة تستمتع بالوحدة الجغرافية والحكومة الواحدة و الجيش الواحد.لكن هيهات.بينما يحاول الآن مبعوث الأمين العام الثامن علي ما أعتقد إيجاد وسيلةٍ للوصول لاتفاقٍ ليبي شامل إلاّٰ أنه يصطدم كما أسلافهُ بالعنادِ الليبي الداخلي و المصالح الخارجية التي ستقودُ حظوظَ مبادرته نحو الشك بالنجاح. كم من لجنةٍ ليبيةٍ ليبيةٍ اجتمعت لوحدها و مع الأمم المتحدة و الدول النافذة الإقليمية و الدولية لتوحيد ليبيا تحت حكومةٍ واحدةٍ و كلها اقتنعت بجني فوائدَ وقتية لينتهي الأمر اليوم بوجود رؤساء ليبيون يمارسون سلطة الحكم بتناكفٍ بائنٍ فيما بينهم و تحت عيون المجموعات المسلحة التي لا تتردد باستخدام السلاح عندما ترى مصالحها مهددة.تشهد تونس و المغرب و القاهرة و جنيف و لندن و برلين و باريس علي هذه الاجتماعات الماراثونية التي تنتهي باتفاقٍ لا يلبث أن ينقضهُ أحدهم.
نتفق والمبعوث الدولي إن طول هذه المرحلة الغامضة و القرارات المتعاكسة لن تقود لاستقرارٍ ليبي و أن الحل هو بانتخاباتٍ لمجلسٍ نيابي ورئيسٍ تكون خارج إطار السيطرة الضاغطة المهددة للفرقاء حيث تسمح لهذه السيطرة تخريب الحلم الليبي الشعبي ببلدٍ عانى منذ ١٩٦٩ سطوةَ الحكم المتسلط الفوضوي و منذ ٢٠١١ فوضى القتل و التشريد و الهدر و ذوبان الاطمئنان و السمعة. لكن كيف ستفعل كل هذا لجنة ٥+٥ المقترحة و قد سبقها لجانٌ مماثلة لم تنتج الحل المثالي؟ يقول المبعوث الدولي أن كل ما سبقَ من مقترحاتٍ قد أصبحَ من الماضي. هل يعني هذا أن الدستور المقترح الذي لم يرَ النور هو ماضٍ كذلك؟ و علي أي أساسٍ سينتخب الليبيون مُشرِّعيهم و الرئيس؟ إن لم يكن الرجل واثقاً من لجنته فسينضم بعد أشهرٍ لأسلافهِ الأمميين الذين حاولوا، بشجاعةٍ، ثم فشلوا لإيصال ليبيا لتوافقٍ شامل. و إن مع نجاحٍ جزئي في دفعِ القتال المتجدد الشرس لأضعفِ درجاتهِ كالجمرِ تحت الرماد و لممارسة الليبيين لحياتهم بشكلٍ شبهِ طبيعي كمن يحمل هموم الدنيا و يتظاهر بالفرح. و هذا "نجاحٌ"يُحسبُ للأمم المتحدة و الليبيين و للأزمات العالمية التي صرفت الاهتمام عن ليبيا من قبل المؤثرين الإقليميين و الدوليين لحدٍ ما. لكنه لا يكفي لتعويمِ بلدٍ بحجمِ ليبيا الشعب و التاريخ و الموقع و الثروات و المستقبل.
ربما يكمن الحل في كَفِّ نفوذ الدوليين و الإقليميين! فلتتوقف الدول التي تساند الفرقاء في تنامي عنادهم و لتنسحب القوات الأجنبية. ما أسهلَ الكلام هنا و أصعبَ العمل!السِرُّ المُعلنْ هو النفوذ التركي القطري الممتد إخوانياً في الغرب، و المصري الإماراتي في الشرق.بينما تقفُ أوروبا و الغرب عموماً قلقين علي الإمدادات النفطية و الهجرات البحرية و التوغل المندفع نحو الساحل من داخل إفريقيا، و البعدُ الإرهابي الداعشي الذي لم ينتهِ بعد، وهي لذلك تتعامل مع كل الفرقاء لضمان أمنها الوقودي و الديموغرافي.لكن الحقيقةَ المُرَّةَ هي أن الليبيون يجدون في الحلفاء الإقليميين و الدوليين ما يحميهم و يمكنهم من التشبثِ بالحكم، و تطويعِ القوانين او خلقها ليبقوا حكاماً.نُقِرُّ أن كل الدول لديها تحالفاتٍ مؤثرة تُلقي بظلالها علي قراراتٍ داخلية.خُذْ لبنان و العراق علي سبيلِ المثال الأكثر سطوعاً. لكن ليبيا تفوق التوقعات في الالتجاء للخارج للاستقواء علي الداخل سياسياً و عسكرياً.عندما اندفعَ خليفة حفتر نحو طرابلس، أوقفهُ لجوء طرابلس للدعم التركي بالمرتزقة و السلاح و هم انتقلوا بقدرة قادر من غاباتِ شمالِ غرب سوريالصحاري ليبيا و سواحلها.قيلَ وقتها أن مرتزقة "ڤاغنر"هم كذلك في ليبيا.و قبل أيام ظهر خليفة حفتر بالبدلة العسكرية بمعرض الإمارات السنوي للأسلحة ينتقي أسلحةً.لِمَنْ؟ كل سياسيٍّ ليبي يلجأُ لحليف و يُجَيِّشَ الشعب الليبي لدعمه علي أُسسَ قبلية و جهوية مما يُكَرِّسُ حالةَ إنقسامٍ تستفحلُ بمرور الوقت.و بعد مرور الوقت الثمين من أعمار الليبيين ستتجهُ المكونات الليبية لتفضيل الانقسام علي الاتحاد و بالفعل هناك في ليبيا الكثير من هذا الطرح.لا يخطأ المبعوث الدولي عندما يُحَذِّرُ ضِمناً بهذا.
السؤال الذي يجب أن يُسأل هو ماذا يريدُُ الليبيون؟ ألا يستدعي هذا تنظيمَ استفتاءٍ محايدٍ لتقرير مصير دستور ليبيا الذي خُطَّ ثم أُهمِلَ؟ليست القضية انتخاب مجلس و رئيس من قائمة السياسيين بل ما يريده الليبيون أن تكون بلادهم عليهِ. واحدةً ليبيةً أم مقتطعاتٍ؟
و من يقرأ يرى نَغَمَةً متواترةٍ لتغيير مهمة بعثة الأمم المتحدة من سياسيةٍ توفيقية إلى قوات حفظ سلام و من ثم قيادة التحول السياسي الآمن.و هذا مستحيلٌ عملياً من دونِ موافقةٍ ليبيةٍ مُسبقةٍ و من حلفاءَ خارجيين بيدهم مفاتيحَ تحويل ليبيا للسلمِ لو أرادوا أو للاقتتال. و يتطلبُ بِعثةً أُمميةً حاكمة، و لا يمكن هذا و لم يُرَ في التاريخ الحديث إلا بتيمور الشرقية. لكنني أشعر أن دعوة ٥+٥ الأخيرة للمبعوث الدولي ستكون علامةً فارقةً في المسيرة الليبية و أن ما بعدها لن يكون مثل قبلها.و أتمنى أن تقودَ هذه اللجنة للاستفتاء علي الدستور قبل اختيار من يحكم ليبيا.ليبيا تنتظر وفاقاً يوحدها و إن لم تجده فستتحول لإدارياتٍ منفصلة لا يجمعها إلا حُلُمٌ أو سراب.لو كنتُ أنصح المبعوث الدولي لنصحته بالاستفتاء المقيد بالحضور الدولي المراقب بقوة و الضامن عبر مجلس الأمن للنتائج ليقول الشعب الليبي كلمته بشأن دستور بلده و من ثم قيادتها.ليبدأ المبعوث الدولي من قاعدة الهرم الليبي و ليس من قمةٍ لم تعد ترى قاعدتها الفسيحة من الشعب.و إن من نصيحةً ثانية، فاحذرْ! السياسيون الليبيون لا يحبون لَيَّ اليدْ و قد لا تجد من بينهم من يوافقك إلا مراءً ظاهراً.إلجأ للشعب.هذا هو نصيرك.والثالثة الأخيرة هي لو قَدَّرَ الله الفشل، أن تقولَ للعالم الحقيقة:من أفشلَ مهمتك، بصراحةٍ و وضوحٍ ليسا دبلوماسيين لأن مصير ليبيا مُعَلَّقٌ برقبتك الآن.
علي الزعتري
الأردن
مارس ٢٠٢٣