الأنباط -
المكان ودلالته في رواية حيوات سحيقة للكاتب يحيى القيسي
إصدارات دار خطوط وظلال/ 2020
قراءة بديعة النعيمي
يتبوأ المكان منزلة معتبرة في النص. وحضوره مرهون بحسن استثمار الكاتب له. وفي وسط صراعه مع مخيلة الكاتب تنمو مكونات النص مع هذا المكون ليعكس للمتلقي أهميته ودوره في احتضان جميع تلك المكوناته السردية فتمثل أمامه وتخضع لمبادئه ومعاييره التي يحددها طابع النص. وهو الذي يفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار النص من بدايته وحتى نهايته من خلال المواقف والأحداث التي يزخر بها , وبهذا يصبح المكان مكونا مهما يساعد في صنع المعنى داخل النص.
ويحمل المكان دلالات متنوعة وعلاقات مختلفة تربط الإنسان بواقعه المكاني وبالتالي يتفاعل كل منهما مع الآخر حيث أنه في نظر يوري لوتمان السيميائي الروسي (حقيقة معيشة تؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه).
والنتيجة نشأة علاقة مزدوجة بينهما لكننا نجده في حيوات سحيقة يبسط حركته على الشخصيات من خلال هذه العلاقة.وبالفعل فإن المكان عند يحيى القيسي لعب دورا فعالا باعتباره المحرك الأساسي لبنية أحداث وتسلسل أزمنته واختلاف موقعه.
وقد اختار الكاتب البتراء كنقطة انطلاق لأحداث نصه الإبداعي عن طريق صالح الشخصية المحورية الدليل السياحي الذي يرافق فريقا تلفزيونا يصور فيلما وثائقيا عن الرحالة السويسري بيركهارت الذي وصل مدينة البتراء عام 1812 متخفيا تحت شخصية مسلم ألباني. ومن هنا تنطلق أحداث الرواية وتبرز سمة المكان من خلال غرابته وقسوته فالبتراء ليست مجرد مكان إنما كانت حضورا مكثفا شغل فضاءها حيث دارت فيها جلّ الأحداث المحورية والتي صنعت ذلك العالم الغريب اللامألوف للبطل صالح وكانت الأرضية الصلبة لها.وهذا ما أكسبها( البتراء) خصوصيتها من بين
بقية الأماكن سواء كانت أماكن مفتوحة أو مغلقة.
وللمكان في هذا النص سلطة ,فقد اتخذ عمقا فنيا من خلال سرد أهم ميزاته وذكر مفاتنه التي تغوي المتلقي لاكتشاف أسراره. وقد بسط سلطته تلك من خلال تفتح دلالاته على مجموعة من ثنائياته الضدية مثل الصعود والنزول, قريب بعيد, منخفض مرتفع , تعقيد المكان وبساطتة ومنه ما ورد ص12 عن مارغريت التي جاءت من الغرب سائحة إلى البتراء.أحبت بدويا من عائلة البدول وتزوجته وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي دفعتها إلى هذا الزواج من وجهة نظرنا ننقل ما ورد دون أي طعن بما ذُكر( والأهم من ذلك قدرتها على تجاوز النقلة الحضارية من قلب الغرب وزمهريره إلى بساطة الشرق ودفئه). وفي ص133 ( عند الهضبة المنبسطة المسماة سطوح الجبل قرر أن يرتاح من صعوده....وربما محاولة النزول).وتعكس هذه الثنائيات حركة المكان وتعالقه مع سير الأحداث.
وينقلنا القيسي من مكان إلى مكان فمن عمان إلى الزرقاء إلى لندن ثم يعود بنا إلى البتراء حيث بدأت أحداث الرواية وجعل هذا المكان مركزا رئيسيا لاستقطاب جميع الأماكن. فالكهف الذي يسقط به صالح بعد أن تزل قدمه يصبح مصدرا لحياة جديدة تتسم بالغرابة يعيشها صالح, تؤرقه وترافقه إلى نهاية أحداث الرواية. ومن هنا ينشيء القيسي علاقة وطيدة بين صالح والكهف الذي يمارس كينونته وحضوره وما له من دلالة فيطلعنا الكاتب على الفضاء الذي تبوأه الكهف والذي أصبح الفضاء المركزي لأن الكاتب من خلاله يفتح للمتلقي أبواب التخييل وآفاق التامل. وتلك العلاقة نشأت بفعل الأسرار التي يخفيه هذا المكان خلفه فهي علاقة رهبة ورغبة في اكتشافها وكشف ما لم يكشفه غيره وهذا يتضح ص137 على لسان صالح 0 سأكتشف خباياه من الداخل بكل هدوء, من المؤكد أنني سأعثر على مخطوطات قد تغير وجه التاريخ).
واختلاف الأحداث وتنوعها مرتبط بتعدد صور المكان داخل النص والتلاعب بهذه الصور تم استغلاله بشكل متقن. فإسقاط الحالة النفسية والفكرية لشخصيات العمل على المحيط الذي يتواجدون فيه يعطي للمكان دلالة تتخطى المألوف كوسط يؤطر الأحداث. فنراه عند القيسي محاورا حقيقيا يقتحم عالم السرد متجاوزا نفسه كمكون يتحكم الكاتب بوصفه.
وقد أسس الكاتب عالما خوارقيا حينما أسقط صالح في الكهف, ليلتحم فيه المكان مع الإنسان وهذا المشهد ينبئ المتلقي أنه بصدد استقبال عالم لا مرئي وهو عالم الماورائيات مثل التخاطر مع الأرواح والتقمص. بهدف تمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية حيث وجد فيه الكاتب حريته في الكتابة. فقام القيسي بإسقاط حوادث وقعت في الماضي على الحاضر ليؤكد بأن العدوان بين البشر ما يزال ساريا والصراع قائم مهما تنوعت أشكاله واختلفت أسبابه. وبهذا فقد تداخل الماورائي والتاريخي والواقعي وتوحدت في عالم واحد.
وللمكان في حيوات سحيقة إسقاط معنوي فالكاتب يرى أن البتراء حكمة, فيكشف قيمتها وقداستها من خلال أساليبه المتسقة مع طرحه لموضوع المكان باعتباره موضوع فني جمالي ومعرفي له دلالته. لكنه مكان يعاقب ويسخط, حدوده قلة أسراره والتي وجب حفظها وعدم كشفها .
وصالح بطل الرواية قرر اكتشاف عالم أسفل الكهف , وبذلك يكون قد حاول خرق أسرار هذا المكان فعوقب بالاختفاء الذي ربما هو الموت فهي لعنة المكان التي حلت به لأنه تمرد على غموضه وحاول السعي لكشف أسراره. يتضح هذ ص136( بعد ثلاثة أيام من تلك الليلة عثر أحد الرعاه في وديان البتراء على حقيبة جلدية فيها دفتر للملاحظات وأشياء أخرى , لكن أحدا لم يعثر على صاحبها إلى اليوم). فرحلة البحث تلك قادت صالح إلى الفناء والهلاك بسبب التحام الشخصية مع المكان.
وللمكان عنجهية تظهر وتبلغ ذروتها في محاصرة الشخصية الممتدة في المكان بوشائج فنية,عندما يحفر المكان/ الكهف, في أغوار هذه الذات/ صالح, مسارات عميقة فيفرد من خلالها سطوته وسيطرته فحينما يقرر صالح إثبات أن ما يحصل له من أمور غرائبية هي ليست جنونا أو مرضا نفسيا, يفرض عليه المكان القيام بتلك الرحلة لاكتشاف كنهه ويتضح ذلك للمتلقي ص133( إذا سيثبت لنفسه الهائمة ولكل المتشككين بحكايته عن الكهف أن ثمة شيئ يستحق أن يتعرفوا عليه عما قريب).
كما أن جمال المكان كان له دور في التأثير على صالح في رحلة بحثه .فبينما كان يستريح وهو في طريقه إلى الكهف ص136(بدا له ضوء النجمة التي تربض على قمة الجبل يزداد سطوعا كأنها انحدرت من الأعالي مقتربة منه في هجعته تلك). فتلك النجمة التي كادت تطبق على المكان زادته شوقا لمعرفة أسرار هذا المكان وما يخفيه خلفه.
ومن العناصر الدالة على تميز المكان الذي انطلقت منه الأحداث وانتهت عنده ما عبر عنه السارد ص7 وهو يصف جمال البتراء( ربما لجمال تلك التشكيلات اللونية في بطون صخورها). وفي ص15( فتبدو زرقة السماء من بينهما أو تغيب, بينما يمسح الضوء المتوهج تلك الظلال الناعسة فوق المنحنيات وعلى بطن الصخر).
كما أسهم المكان بأبعاده الدلالية في بلورة مفهوم النص وتنوع الأفكارالتي أراد الكاتب إيصالها للمتلقي. فنجد في النص الدلالة الدينية مثل حضور المسجد حينما أتى بالحديث عن مدينته الزرقاء وذكر الجماعات التي تسمى بالدينية وهي عن الدين أبعد, وتوريطها لصغار السن وغسل أدمغتهم للذهاب إلى سوريا والعراق لتلبية نداء الجهاد.
ويكتشف المتلقي في نهاية النص فيما جاء من ملاحظات كتبها صالح في دفتره في رحلته الأخيرة مع الحياة الملامح الصوفية التي تسم شخصيته ففي ص140( ملاحظة: سأقترح على مدير مركز الدراسات حين أعود إلى عمان أن ننجز بحثا عن التصوف في محاربة التطرف). والتصوف عند صالح هو أن تعم المحبة التي تنفتح على الإنسانية جمعاء والتي جللها الكاتب بهذه العبارة على لسان صالح ص134( لو كنت سأختار مذهبا لي في هذه الحياة فمن المؤكد سيكون دين الحب الذي ينفتح على الإنسانية جمعاء وينبذ العنف).
بقي أن نقول بأن يحيى القيسي سعى إلى إثارة هيكل أفق المتلقي عن طريق دلالة علم الماورائيات الذي صنعه ـوهو علم يرتبط أساسا بالتاريخ بل هو امتداد له ـ ليقول عن طريقه الكثير ويسر للمتلقي بمكنوناته. وهنا يكون قبول المتلقي أو رفضه لما تلقاه مرتبط بقناعاته ومعتقداته.