الأنباط -
د. دانييلا القرعان
قبل التحدث عن السيناريوهات، اود القول أنه وبالتزامن مع انتهاء مفاوضات الجولة الثالثة بين الوفدين الروسي والاكراني؛ كانت بولندا تعلن دعمها لانضمام أوكرانيا الى الاتحاد الأوربي، وفرنسا تنقل مقر سفارتها من كييف الى لفيف، والرئيس الأمريكي يعد بالمزيد من حزم العقوبات الجديدة؛ والاعلام العالمي يمارس تضليلاً رهيباً للحقيقة، فما معنى أن الطرفين المعنيين بالصراع لا يزالا مستمران بالمفاوضات؟
نعم، انتهت الجولة الثالثة من المفاوضات قبل عدة أيام للوصول لحل سياسي يوقف الحرب، لكن دون التوصل لنتائج سياسية حاسمة، رغم أن وفدا البلدين اتفقا على العودة قريباً، ربما هذه أهم إيجابية تحققت في الجولة الثالثة، رئيس الوفد الروسي قال توقعات موسكو مع الجولة الثالثة "لم تتحقق"، ورئيس الوفد الأوكراني قال عن تحقيق بعض النتائج الإيجابية حول الممرات الإنسانية، بمعنى المفاوضات اليوم باتت فنية وليست سياسية، إذ لا يزال بحث المسائل الجوهرية المتعلقة بوقف إطلاق النار مؤجلاً من قبل الطرفين على حد سواء
أما السيناريوهات المتوقعة في ظل الحرب الدائرة الآن، أولا إصرار موسكو على شروطها التعجيزية من تعديل دستور يمنع الانضمام لحلف الناتو، والاعتراف بالجمهوريتين المستقلتين والتخلي عن جزيرة القرم، ونزع الأسلحة خاصة المضادة للطائرات، السيناريو الثاني، أن هناك رموز النخبة في الحكومة الأوكرانية لن تسمح بإنجاح المحادثات إرضاءً للداعم الأوروبي والأمريكي الهش، وبوتين واعي تمام الوعي بهذا الموقف ومع ذلك يجاريهم، والسيناريو الثالث هو تمكن روسيا من الحسم العسكري في كييف العاصمة الرمز والذي سيحدد مصير أوكرانيا والذي سيقلب جدول أعمال المحادثات ليتحدث عن خطوط وقف نار بين أوكرانيا الشرقية وأوكرانيا الغربية والاستسلام لأمر واقع جديد. والسيناريو الرابع أن تتوقف الحرب فعلاً بفعل المفاوضات نتيجة ضغط المجتمع الدولي للخروج من الأزمة العالمية نحو آفاق حل وإظهار الرغبة بالسلام وحقن الدماء، ولا يمكن لأي من وفدي الطرفين الانسحاب من الاجتماع لأنه بذلك يعري نفسه أمام المجتمع الدولي من الالتزامات القانونية والأخلاقية، ذلك أن عنوان المفاوضات هو وقف الدم واحلال السلام على قاعدة التوصل لحلول وسط ترضي الطرفين
سأتحدث برأيي الشخصي وبقناعتي الكاملة في ضوء السيناريوهات المطروحة والمتوقعة وارى لن يكون هنالك أية مفاوضات جادة بعد فشل الجولة الثالثة من المفاوضات بشكل حقيقي، روسيا دخلت الحرب وهي عازمة ع تحقيق أهدافها بشكل كامل، وهدفها ب اثبات قوتها مجددا للغرب وحلف الناتو وامريكا، ولن تخرج روسيا منهزمة من هذه الحرب، وبذات الوقت أوكرانيا تبدي مقاومة شرسة لكنها لا تدوم طويلا اذا لم تقدم لها الدول المتحالفة معها المعدات العسكرية والاليات وغيرها والدعم الكامل، وحتى العقوبات المفروضة ع روسيا أرى انها لا تجدي نفعا لا الآن ولا مستقبلا، اذن سنتجه الى السيناريوهات المحتملة بشيء من التفصيل:
لا يمكن لأحد أن يجزم بما ستأول إليه الأمور في أوكرانيا، وسط تصاعد دخان الحرائق والتفجيرات، وتواصل المعارك في الشوارع، والساحات، بينما يتابع العالم مأساة عائلات الضحايا والنازحين، ويسمع عن التحركات الدبلوماسية بعيدا عن الأضواء. فما هي التوقعات الأكثر واقعية للطريقة التي ستنتهي بها الحرب؟ وما هي السيناريوهات التي يراها السياسيون والعسكريون؟ من الصعب توقع المستقبل بدقة، ولكن هذه هي المآلات المحتملة أكثر:
الحرب القصيرة: يفترض في هذا السيناريو أن تصعّد روسيا عملياتها العسكرية. في هذه الحالة قد يزداد القصف العشوائي المدفعي والصاروخي في مختلف المناطق بأوكرانيا. ويرجح حينها أن تشن القوات الجوية الروسية، التي لم يكن لها دور كبير حتى الآن، غارات مدمرة، وأن تتعرض المؤسسات الأوكرانية الرئيسية إلى هجمات الكترونية واسعةـ وأن قطع الاتصالات وموارد الطاقة، يقتل آلاف المدنيين. على الرغم من المقاومة الشرسة، يرجح أن تسقط كييف خلال أيام. تعزل الحكومة وتستبدل بحكومة موالية للنظام في موسكو. الرئيس زيلينسكي إما أن يغتال أو يهرب لتشكيل حكومة في المنفى. الرئيس بوتين يعلن النصر ويسحب بعض قواته، تاركاً ما يكفي منها للسيطرة على الأوضاع. آلاف اللاجئين يواصلون الهروب غرباً. وتنضم أوكرانيا إلى بيلاروسيا كدولة زبونة لموسكو.
هذا التصوّر ليس مستحيلاً، ولكنه مرتبط بعدد من العوامل، من بينها أن يتحسن أداء القوات الروسية، وأن تفتر عزيمة القتال والمقاومة المذهلة التي أظهرها الأوكرانيون. قد ينجح الرئيس بوتين في تغيير النظام في أوكرانيا بعد حملته العسكرية على جارته الغربية. ولكن أي حكومة موالية لروسيا ستكون هزيلة ومعرّضة للتمرّد الشعبي عليها. وسيؤدي هذا الوضع إلى حالة من عدم الاستقرار تنذر باحتمال تجدد النزاع مرة أخرى.
حرب طويلة: من المحتمل أن يتطور هذا النزاع إلى حرب طويلة الأمد. فقد تجد القوات الروسية نفسها غارقة في الوحل بسبب تحطم معنوياتها أو ضعف معداتها أو فشل قياداتها. وقد تستغرق القوات الروسية وقتاً أطول في السيطرة على المدن مثل كييف، التي يقاتل المدافعون عنها من شارع لشارع، فيؤدي ذلك إلى حصار طويل الأمد. ويعيد القتال إلى الأذهان الصراع الوحشي الطويل الذي خاضته روسيا في التسعينيات للسيطرة وتدمير غروزني عاصمة الشيشان.
وحتى إن تمكنت القوات الروسية من دخول المدن الأوكرانية، فإنها قد تجد صعوبة في إحكام السيطرة عليها. وقد لا تستطيع روسيا توفير العدد الكافي من القوات لفرض وجودها في بلاد بهذه الشاسعة. الدفاعات الأوكرانية تتحول إلى فرق تمرد فاعلة، مسلحة بالعزيمة ودعم السكان. يواصل الغرب إمداد الأوكرانيين بالأسلحة والذخيرة. وربما تتغير القيادة السياسية في موسكو بعد سنوات فتغادر القوات الروسية أوكرانيا، منهكة ومدحورة مثلما حدث لها في 1989 في أفغانستان بعد عشرية كاملة من القتال ضد المتمردين الإسلاميين.
حرب أوروبية: هل هناك احتمال بأن تتمدد هذه الحرب إلى ما وراء الحدود الأوكرانية؟
قد يسعى الرئيس بوتين إلى استعادة أجزاء من الإمبراطورية الروسية السابقة، فيرسل قواته إلى جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقاً، مثل مولدوفا وجورجيا وهما ليستا في حلف الناتو. وقد يكون الأمر مجرد تصعيد وحسابات خاطئة. وقد يعلن الرئيس بوتين أن إمداد الغرب أوكرانيا بالأسلحة عدوان يتطلب الردّ. قد يهدد بإرسال قواته إلى دول البلطيق، التي هي في حلف الناتو، مثل لتوانيا، وفتح ممر أرضي إلى الجيب الروسي الخارجي الساحلي كالينينغراد. وسيكون هذا الأمر بالغ الخطورة وقد ينذر بحرب مع حلف الناتو.
وتنصّ المادة الخامسة ميثاق التكتل العسكري على أن أي اعتداء على عضو واحد في الحلف، هي اعتداء على جميع الأعضاء. ولكن الرئيس بوتين قد يجازف بذلك إذا رأى أنه السبيل الوحيد الذي يضمن له البقاء في السلطة. فإذا شعر بأنه يتجه نحو الهزيمة في أوكرانيا فإنه سيحاول التصعيد أكثر. ونعرف الآن أن الزعيم الروسي عازم على انتهاك الأعراف الدولية الثابتة. وينطبق ذلك على الأسلحة النووية. فقد وضع بوتين هذا الأسبوع قواته النووية في أعلى درجات الاستعداد. ويشكك أغلب المحللين في أن يعني هذا استعمالها المرجح أو الوشيك. ولكنه تذكير بأن العقيدة الروسية تسمح بالاستعمال التكتيكي للأسلحة النووية في ساحة المعركة.
الحل الدبلوماسي: على الرغم من كل هذا، هل هناك احتمال لحل دبلوماسي؟
إن "السلاح نطق الآن، ولكن لابد أن يبقى طريق الحوار مفتوحاً". والحوار متواصل فعلاً، إذ تحدث الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إلى الرئيس بوتين هاتفياً. يقول دبلوماسيون إن الغرب يواصل استشعار مواقف موسكو. كما أن المسؤولين الروس والأوكرانيين أحدثوا مفاجأة عندما التقوا لإجراء محادثات على الحدود مع بيلاروسيا. وإن كانت المحادثات لم تحقق أي تقدم، فإن بوتين على الأقل قبل باحتمال التفاوض على وقف إطلاق النار.سقوط مدينة خيرسون بيد روسيا ولافروف يقول إن حرباً عالمية "لن تكون إلا نووية الرئيس الأوكراني زيلينسكي يحذر من "ستار حديدي جديد يعزل روسيا عن العالم المتحضر"
السؤال الأساسي المطروح هو إذا كان الغرب على استعداد لتقديم ما يسميه الدبلوماسيون "مخرجاً من الطريق السريع". ويقول الدبلوماسيون إنه على بوتين أن يعي متطلبات رفع العقوبات الغربية من أجل التوصل إلى اتفاق يحفظ ماء الوجه.
فلنتخيل هذا السيناريو: الحرب تنقلب على روسيا. والعقوبات يزيد وقعها على موسكو. والمعارضة تتعزز مع وصول المزيد من جثمانين الضحايا إلى البلاد. والرئيس بوتين يتساءل ما إذا كان وضع نفسه في ورطة. ويرى أن مواصلة الحرب تحمل تهديداً لسلطته أكبر مما تحمله مذلة إنهائها. الصين تتدخل وتضغط على موسكو من أجل قبولها بتنازلات، مهددة بأنها لن تشتري الغاز والنفط من روسيا ما لم تخفف من حدة التوتر. وهذا يدفع بوتين إلى البحث عن مخرج.
في الوقت نفسه يشاهد المسؤولون الأوكرانيون التدمير المتواصل لبلادهم، ويقتنعون بأن التنازلات السياسية أفضل من الدمار وزهق الأرواح. فيتدخل الدبلوماسيون ويتوصلون إلى اتفاق. يقبل الأوكرانيون مثلاً بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، وعلى أجزاء من إقليم دونباس. وفي المقابل يقبل بوتين باستقلال أوكرانيا وتعميق روابطها بأوروبا. هذا لا يبدو مرجحاً، ولكن ليس من المستبعد أن يخرج مثل هذا الاتفاق من رحم الأنقاض التي تركها النزاع الدموي.
الإطاحة ببوتين: ولكن ماذا عن فلاديمير بوتين نفسه؟ صرح الرئيس الروسي عندما أطلق العملية العسكرية: "نحن مستعدون لأي نتيجة كانت". ولكن ماذا لو كانت النتيجة أن يفقد السلطة؟ يبدو الأمر بعيداً عن التصور. ولكن العالم تغير في الأيام الأخيرة، ومثل هذه الأمور يجري التفكير فيها فعلاً. "تغير النظام محتمل اليوم في موسكو مثلما هو محتمل في كييف". لماذا اقول مثل هذا الكلام؟ ربما لأن بوتين يخوض حرباً كارثية. فآلاف الجنود الروس يموتون. ربما هناك مخاطر باندلاع ثورة شعبية. ويلجأ بوتين إلى قوات الأمن الداخلي لقمع هذه الثورة. ولكن الأمور قد تنفلت من يديه، فينقلب عليه عدد كاف من السياسيين والعسكريين والنخبة. يقول الغرب إذا رحل بوتين وحل محله قائد معتدل فإن العقوبات ستخفف عن روسيا وتعود العلاقات الدبلوماسية إلى طبيعتها مع موسكو. وقد يحدث انقلاب عسكري دموي فيترك بويتن السلطة. ولا يبدو هذا الأمر أيضاً مرجحاً الآن. ولكنه ليس مستبعداً إذا شعر الأشخاص المستفيدون من بوتين بأنه لم يعد قادراً على حماية مصالحهم.
الخلاصة: السيناريوهات المطروحة لا تتناقض مع بعضها، ويمكن أن تتقاطع وتؤدي إلى نتيجة مختلفة. ولكن مهما كانت الطريقة التي تنتهي بها هذه الحرب فإن العالم تغير بعدها، ولن يعود إلى ما كان عليه من قبل. فعلاقة روسيا بالخارج ستكون مختلفة. وسيكون تعامل الأوروبيين مع القضايا الأمنية مختلفاً. فقد اكتشف النظام الدولي المبني على القوانين حقيقة الوظيفة التي أنشئ من أجلها في بادئ الأمر.