إن من أدبيات العمل الحكومي الناجح، وكما الكثير من دول العالم المتحضرة والمتقدمة،أن تنطلق الخطط الحكومية وتبنى على قاعدة الاستراتيجيات الوطنية للدولة والتي تحدد في مضمونها الأولويات والغايات التي تسعى الدولة لتحقيقها على المدى البعيد. وعليه على الحكومة-بغض النظر عن شكلها والية عملها-أن تقدم خططها المنسجمة والمتناغمة مع استراتيجية الدولة، والمتضمنة أهداف واقعية يحكمها مؤشرات أداء قابلة للقياس والمتابعة، وبالبناء على ما سبق من انجاز وتقويم الأخطاء وتعديل المسار حيث يلزم الأمر.
من خلال مشاهداتنا ومتابعاتنا للعمل الحكومي وعلى مدار السنوات الماضية، وحالة التخبط والتفرد في اتخاذ القرارات، والانحراف الذي قد يصل الى 180 درجة ما بين عمل حكومتيين متتاليتين، ندرك بأن الأداء الحكومي بعيد كل البعد عن منظومة الفكر الاستراتيجي للدولة، ويرتبط بشكل أكبر بمفهوم إدارة الأزمات وتحقيق المكاسب الآنية والوهمية،وقاعدة تثبيت الكراسي،والاستعراض المبالغ فيه والذي ما يلبث أن ينعكس بشكل سلبي على الحكومة وطاقمها.
القاعدة الاولى -والتي ندركها جميعاً- أن الأردن ولد من رحم أزمة، والمتتبع للمئة سنة الماضية سيجد بأننا على الدوام نعيش داخل أزمات متتالية، وننتقل من واحدة إلى أخرى سواء كانت سياسية أو إقتصادية أو أجتماعية ، وأن من يعيش الأزمات هو من يحتاج أكثر من غيره للتفكير الاستراتيجي والتخطيط السليم لتجاوز هذه الأزمات والسيطرة عليها وأن يصنع الفعل ولا يعتمد على ردة الفعل.
القاعدة الثانية -حتى تضمن الحكومات نجاح تحقيق أهدافها وتنفيذ خططها، عليها أن تكون قادرة على التميز ما بين أعمال الحكومة والسياسات الحكومية ومفهوم الإدارة العامة، حيــن تلعــب الإدارة العامــة-ممثلة بالإدارات الوسطى والموظفين التنفيذين- دوراً مســانداً فــي عمليــة صنع السياســة العامــة ، بينما يكون لها دورارئيسيا فــي مرحلــة التنفيــذ. وحيث أن الجهــاز الإداري هــو حلقــة الوصــل بيــن الحكومــة والمواطنيــن، فإن أداؤه يكون الفيصل في حكم المواطن على أداء الحكومة. فعندمــا يتــم إســاءة معاملتــه فــي مؤسسة حكوميــة فإنــه يصــب غضبــه علــى الحكومــة لا الموظــف الحكومــي المســؤول ولا الجهــاز الإداري. ومــن هنــا يتضــح الــدور الخطيــر الــذي تقــوم بــه الإدارة العامــة فــي إســقاط أو إنقــاذ الحكومــات.
اليوم لدينا حكومة جديدة تشرع بوضع خطتها وبرنامجها الحكومي للمرحلة المقبلة، وأمامها كتاب التكليف الملكي السامي الذي يضع الخطوط العريضة للحكومات ويرتب الأوليات والتي تكررت كثيراً سعياً لايجاد الحكومة القادرة على ترجمة هذه التوجيهات إلى انجازات على أرض الواقع، ولكن يبقى السؤال ما هي القاعدة التي ستنطلق منها الحكومة لإعداد هذا البرنامج؟
ندرك حجم التحديات الوطنية، وندرك حجم الضغوطات السياسية والاقتصادية، وندرك حجم التغيرات بالمحيط الاقليمي والعالمي، وتبعات أزمة كورونا، ولكن كل ذلك لايبرر التخبط في ملفاتنا المحلية والخدمية والتنموية، ولايبرر ضعف الانجاز وحجم الهدر على برامج ومشاريع بلا نتائج.
لذلك على الحكومة أن تأسس نهجاً جديداً يبدأ معها ويكون عابرا للحكومات، وذلك من خلال مراجعة الاستراتيجات الوطنية والقطاعية الموجودة في أدراجنا وعلى أرفف مسؤولينا، وإعادة صياغتها لتكون رؤية وطنية واضحة المعالم تترجم التوجيهات الملكية لخطط وبرامج بأهداف واضحة وقابلة للتحقيق ضمن اطار زمني محدد بعيدا عن الأمنيات والأحلام،واعادة توجيه مواردنا المحدودة بما يضمن كفاءة استخدامها وتجنب هدرها، وتحقيق التشاركية من خلال التشاور والتعاون الحقيقي بين كافة القطاعات والمؤسسات، وتوزيع الأدوار بشكل واضح ومحدد.
لدينا القدرة ان نطور قطاعنا الزراعي والصحي والتعليمي وقطاع الاشغال العامة والبلديات وقطاع الطاقة، لدينا القدرة أن نجود مخرجاتنا، وأن نعالج همومنا الوطنية بعيداً عن المصالح والمكاسب القطاعية او الشخصية، لدينا القدرة أن نطور وننجز، لدينا القدرة ان نحاسب المقصرين ونكافئأصحاب الإنجاز، لدينا القدرة أن نتوقف للحظة ونتأمل ما هي الحقيقة وما هو الحقيقي، لم يعد لدينا متسع من الوقت، ولا فائض في الموارد ولا رحابة صدر لدى المواطن ليتحمل مزيدا من التوهان، علينا أن نعمل الآن وأن يكون الوطن هو البوصلة الوحيدة للجميع.