الأنباط -
يخطئ من يظن أن الدولة ومؤسساتها مشاعاً لعبث مواطنيها وللعاملين فيها والقائمين على شؤونها، ويستبد في الخطيئة من يعتقد واهماً أن إفشاء أسرار الدولة هي ضرب من ضروب حرية التعبير أو اسلوب من أساليب المعارضة المشروعة أو المناكفة المحتملة التي يقابلها امتصاص العاقل لترف الغاضب من قبل الدولة ومؤسساتها، بل بات من واجب الدولة ضبط ورصد الشأن المتعلق بأمنها الوطني والقومي وأن تعيد فهرسة فهمها ومفهومها لأسرار الدولة وضوابط البوح في خفايا إدارة الشأن العام.
لم يعد مقبولاً البتة الخلط بين الشهادة التي يقتضيها التحقيق أو الاستقصاء أو المحاكمة من الجهات المخولة بمعالجة الأخطاء وتصحيح مسارات إدارة المرافق العامة، وبين استغلال المعلومات المتاحة بحكم الوظيفة أو الموقع العام لغايات تصفية الحسابات أو الاستقواء على الدولة أو خدمة الأجنبي بقصد أو بغير قصد، بل اضحى هذا الأمر يثير الجزع والاستياء معاً ويثير جملة من التساؤلات المرعبة عن أسباب التهاون مع تلك الظواهر الصوتية المنفلتة من عقال الأخلاق الوطنية ومبدأ سيادة القانون.
أعجب لأولئك الذين يمعنون في إيذاء الوطن ويتغنون في الإساءة إليه ويتسابقون لإفشاء أسرار الدولة وخفايا إشغال الموقع العام، ويبالغون في توصيف الأخطاء العامة وتوظيفها في النيل منه؛ كل ذلك في أول اختبار لأخلاقيات حماية أسرار الدولة عند الإحالة إلى التقاعد أو اخفاق في مسار انتخابي أو فشل في اجتياز متطلبات إشغال الموقع العام أو ربما لغضب معقول ولكنه لا يبرر شرعنة إفشاء الأسرار العامة اياً كان المبرر أو السبب، وبعيدًا عن موجبات المساءلة القانونية فإن هذا السلوك المدان يشكل طعنة قاتلة ومؤلمة في أمانة المسؤولية ومثالاً بائساً على خوارم المروءة التي يأنفها الأردنيون.
من أبسط الثوابت الأخلاقية لرجال الدولة عدم استغلال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي لتسميم الرأي العام، والارتقاء الى مستوى النيل الوطني، والترفع عن ركوب موجة الحنق الشعبي؛ لتأليب الناس وتوتير الجمهور ضد مؤسسات الدولة من خلال استخدام تلك الأسرار للإساءة إليها، سيّما وأن عوار الدولة وتفاصيل أخطاءها لا يجوز البوح بهما سوى للمؤسسات الرقابية، والجهات المخولة بالرصد والتحقيق والمحاسبة والمساءلة والإصلاح دون غيرها.
إفشاء أسرار الدولة قد تصنف من الجرائم الماسّة بأمن الدولة، وقد تؤدي إلى الإضرار بالسلم الأهلي وأمن المجتمع، وطبيعة المسؤولية تتوزع بين حدودها الأخلاقية والوطنية والقانونية، تلك الحدود التي تضع النخب أمام خيارات دقيقة في التعاطي مع الشأن العام وتستلزم الإدراك بعدم جواز الإفراط في سوء التقدير التي قد تأخذ تلك النخب الى مساحات لا تليق بوطن تميز بانتهاج أساليب التواصل مع أبنائه على قاعدة روح الأسرة الواحدة.
أسرار الدولة ليست ملكاً للعارفين بها، والأوطان التي فضحها القائمين على شؤونها تمزقت بين مطامع أعدائها، ونكران أبنائها؛ فتاهت في مرامي الخذلان، ولأن الأردن الحبيب بشعبه الأصيل، وقيادته الحكيمة لم يكن كذلك ولن يكون؛ فإن أسرار الدولة هي كرامة أبنائها، ومروءة رجالاتها، ولون القمح فيها ابد الدهر،وحمى الله وطننا الحبيب من كل سوء...!