الأنباط -
تحتفل الشعوب بأوطانها عبر محطات من دروة تشكيلها التاريخي وهذه سمة سادت مفهوم الدولة بمفهومها الحديث فيما بعد عصر النهضة وتشكل الدولة بصيغتها القومية او الوطنية، ولأننا لسنا استثناء من هذا التكوين، وبعيدا عن الكثير من التفاصيل التي لا يتسع لها المقال والمناسبة، فقد جاء تشكيل الدولة الأردنية بشكلها الحديث كبقية من حلم اكبر تمثل بحلم الدولة العربية الكبرى وليس ادل على من علم الأردن الذي ورث علم ذاك الحلم، ذاك الحلم المغدور على مذبحة ما بعد الحرب الكونية الأولى وتقاسم المنتصرين إرث المهزومين ،ولأن المنتصر كان غادرا يتطلع في كل سياساته انذاك إلى هدف واحد تمثل بضمان تحقيق الحلم الصهيوني على تلك الانقاض، فكانت التقسيم والدويلات والوصاية والانتداب، ومن بين كل ذلك بقي الحلم يرواد الرجال، الرجال الحالمبن بما هو أكبر لكنهم في الواقع كانوا أضعف من فرض إرادتهم واهدافهم، فقبلوا بالواقع الصعب لما عانونه من الغدر للحلم الاكبر، فكانت الإمارة تتارجح في تشكيلها بين الغرب الخادع والشرق (الواقع) الغائب المغيب منذ قرون، لتصمد كاليتيم على مائدة لئيم، فتتلاقى الرغبات الوطنية لرجال صدقوا مع بعض الأهداف القائمة فتكون الدولة بقية من حلم مغدور، يفيق على نهايات كابوس النكبة حيث يتصارع الكبار على قصعة تم تفريغ مضمونها وثقافتها وتاريخها لقرون خلت.
فكانت الدولة المنتزعة من على المائدة المقسمة حيث لا حول ولا قوة لأهلها بقادم أيامهم، فلا حرب تحرير ولكن حرب إرادات، وحيث لا قرع أسلحة ولكن قرع فراغ لا ذنب لنا به ولم نكن من صناعه.
نعم كانت الدولة بقية حلم صاغتة احلام الرجال الذين غنوا للشام وبغداد وفلسطين وأثر من شيخ الحلم المنطلق من مكة حالما وطامحا لما هو أكبر وأكبر، كانت الدولة على موعد أراده المنتصر كيانا عازلا وأراده رجالة كيانا ثابتا وجاء الامتحان الأول بعد ثلاث أعوام تلت، فصمد الرجال في باب الواد واللطرون ومدن الساحل بدوا وحضرا وبشكل وأداء لم يحتمله المستعمر المستثمر في الوعد المشؤوم، لتدشن لسنوات من صراع الإرادة تم تتويجة بالدستور الأمثل والتأسيس لمنطق الدولة غير المرغوب، فتستمر المسيرة بالحفيد الشاب بالغ العمق في قراءة المشهد الذي سارع بتسارع في حقول ألغام وتفاصيل لم تنسى الفكرة الأولى وإن كانت اكثر واقعية في زمن التبدلات والانقلابات واحلام المارشات العسكرية عبر الإذاعات ،فيصمد الشاب ليشيب وقد أصبح بانيا، وفي كل مفصل لم يتجاوز خطا احمرا دون علو في الشعارات، فكانت حزيران المفروضة أمريكيا والكرامة ثأرا عربيا وفي كل مرة تتيهة البوصلة تبقى الدولة اكثر استقرارا وزنة، وحتى لو لم ترتقي لمستوى الحلم الاكير، الا انها صارعت للنموذح الأصغر، بحجم بعض الورد، فتتكون المؤسسات وتتأصل رغم شح إمكاناتها، بأفضل من قريناتها حيث تعلو الإمكانيات.
فكان الأردن، وطنا يسير بخطى ثابتة لا تخلوا من عثرات، خطى ثابتة لبناء الدولة دون الدخول في صراعات الدم والثأر والثأر المتبادل، وسطية وتسامح قل مثيله في محيطه، بل وأكثر من ذلك موئلا لكل نتاج كارثة ومصيبة، كحديقة أمنة يلوذ بها كل لاجىء وطريد أكان من الغرب او الشرق او الشمال، وبذلك لم يكن وطن ملائكة، لكنه لم يكن يوما شيطانا،
وتستمر المسيرة بشعب وقيادة ومؤسسات تخطو خطوات البناء في الداخل ولم تغفل عيونها عن محيطها وما يحاك، فكنا في الجولان والبوابة الشرقية والكرامة كما كان الأجداد في اللطرون وباب الواد والسموع.
واليوم تتعزز المؤسسات رغم ما شاب بعضها من هفوات وأعراض وتصر الدولة على تجديد نفسها بهذه الأداة او تلك وتختلف الاجتهادات حول إصلاح هنا وهناك ويتدافع الاردنيين على هذا المسرح لان التدافع سنة من سنن الكون، يختلفون ويجتهدون في كثير من التفاصيل، لكنهم لا يختلفون على الوطن، ولا يتنازعون الرايات، ولا يجتهدون في شرعية سياسية لرأس الدولة ممثلا بالهاشميين حيث العقد الاجتماعي الأول ، فالوطن بالنسبة لهم هو الأردن وطنا نهائيا ونموذج وان كانت قلوبهم معلقة بالجوار حيث دماء الأجداد وتضحياتهم، والراية هي الراية بما تعني وتحمل من معاني باركتها الدماء والتضحيات في الصحراء والبادية والأرياف والمدن بأسوأرها، والقيادة هي القيادة الهاشمية بما تحمل من عمق ودلالة ديمومة واستمرار، عبق من نبوة وارث طويل، حيث حلم الشريف الذي غدره المنتصر، وتعلقنا به لنبقيه حاضرا في دولة الحلم الأصغر في الجغرافيا ، الكبيرة والسامية باهدافها ونهجهها.
واليوم ونحن نعيش اللحظة والعقد الثامن في مشارف منتصفه، حق لنا ان نتمسك بالحلم والراية والقيادة، حيث لا انفصام بين كل ذلك لتبقى الحواضر الأخرى حاضرة في وجداننا وحاضرتها الأغلى القدس حيث رفات مطلق الحلم ومفجرة، وحيث الراية عالية بسموها وحيث الشعب الذي وان اشغلته تفاصيل الحياة ومجرياتها، ما زال قلبه معلقا بما تعلقت به ارواح وأهداف وخطوات الأجداد، معززا كل ذلك بعقد إجتماعي حازته القيادة ومزنرين ذلك بجيش حمل الوطن في قلبه والعروبة في إسمه ومصطفوبا في مهجته.
اخيرا، لنا وطن حق لنا نفخر به، وارثا وجب المحافظة عليه، وانجازات نبني عليها، وحقول ألغام علينا تجاوزه في أقليم كان وما زال ملتهبا وسيبقى لحين عودة الحق لأهله والتخلص من عضال ألم بجواره.
حفظ الله الوطن قيادة وشعبا ومؤسسات ورحم الله أولئك البناة المؤسسين الأوائل وأبناءهم من الأباء ممن صاغوا لبنات هذا البناء بأيديهم وعقولهم وبنادقهم وما زال ابناءهم كذلك يفعلون، قيادة وشعبا وجيشا.
ولله الأمر من قبل ومن.
المهندس عامر الحباشنة