أصدقائى الأعزاء
عندما طالت غربتى بعد إنتهاء تلك الحرب اللعينة فى وطنى وفرارى منها إلى بلاد أخرى بعيدة للمنفى لا أعرفها ولا هى تكاد تعرفنى، قررت أن أقطع تذكرة سفر للعودة إلى الأهل والديار، وما إن وصلت أنتنابنى إحساس آخر مرير أشد قسوة، كنتُ أشعر هذه المرة وكأن الوطن يقابلنى بفتور. أتذكر وأنا أمشى على تراب وطنى بعد طول غياب أننى كنتُ أخفف الخطى كى لا أؤلمه أو هكذا تهيأ لى، كنت حقاً أبتسم لكل شىء وألمس وأتحسس أى شئ، كنت أفرح لأى شىء وأحزن على شباك مدرسة مكسور لا تقوى الدولة على إصلاحه... كنت حقيقة أبكى كنت حقاً كثيرة البكاء... ووجدت نفسى وأنا ماشية فى الشوارع أردد بينى وبين نفسى عبارة: الغربة تخدع أحياناً عندما تأتينا بفائض الحنين... وما إن دلفت إلى دارنا، سألتُ عن أبى المريض، وأنا أصرخ من الألم: أهو بخير؟... وإليكم نص كلماتى اليوم:
كان أول سؤال وُجِه لى بعد عودتى للأهل والديار عن الماضى والذكريات... وأنا تمنيت بينى وبين نفسى أن يعود بى الزمن إلى الوراء لعل الماضى يكون أكثر أُلفة، لكننى حقاً إكتشفت أن الماضى الذى بذهنى أصبح بذاته غريباً عن ذاك الماضى الحقيقى الذى أعرفه ويعرفنى
كان شعورى تحديداً منذ أن وطأت قدماى على أرض الوطن، وكأنى على مشارف فصل جديد يوشك أن يبدأ... فصل جديد بعد إجتماع الشمل فى وطن أشعث أغبر... فى كل طيات العيش فيه يحمل تَحَدٍ جديد يضفى عليك المزيد
هل غيرتكِ الغربة يا إبنتاه؟... رددت على سؤال جدتى متحيرة، وأنا أردد قد لا يتغير شكل الإنسان كثيراً بإبتعاده فترة من الزمن عن مكان نشأته وترعرعه يا جدتاه، لكن قناعاته ومبادئه لا بد أن تتغير، كلياً أو جزئياً أو حتى نسبياً
ويسألوننى عن أسباب تعاستى وسر ملامح الحزن البادية دوماً فى عيناى، وأنا أردد بلا مواربة أو زيف أننى فعلاً تعيسة فلم أجد فى إبتعادى عن أهلى طمأنينة ولا فى العيش معهم راحة، فالغربة يا سيدى ليست مكاناً ، إنها حالة نفسية تسيطر عليك، فيشعل الأمل بها فتيلاً خافتاً يكاد أن يخبو وينطفىء
أيعقل ألّا يوجد تضاد داخل الإنسان نفسه؟... تارة تعتريه رغبة بأن يكون ملهماً ناجحاً ، وبأن يصل عنان السماء من فرط حماسته، وتارة أخرى يجد نفسه جالساً فى زاوية غرفته يقرأ على نفسه السلام! فقد يحب أحدهم اليوم ويكرهه غداً... فكل إنسان منا يرغب أن يدخل فى داخله ليعرف حقاً ما الجريمة التى وقعت على عاتقه!... وأنا تحديداً من هذا النوع الأخير
وأجبت باكية على سؤال محدثى بعد إنتهاء تلك الحرب اللعينة... أىٌّ عذابٍ أشقُ على الأمِّ من فقد ضناها؟ أىٌّ جلدٍ لشغاف أفئدة الأمهات أقسى من جلدِ الذكريات وحنين الكلمات؟... ثم شهقت باكية: كلنا متحالفون عليك يا وطنى الحزين، فحب الوطن ستظل لعنة تطاردنا إلى الأبد
ما أصعب ما عاصرت وقت الحرب؟... إعتدلت باكية وأنا أجيب، لم أجد أصعب من الشهقات التى كُتمت فى أفواه أيتامٍ لم يعرفوا معنى الأبوةِ يوماً ، بل لم يشعروا بالأمان بُرهةً... يشتاقون لسرابٍ لم يدركوا ماهيته... إنهم يا سيدى محرومون، معذبون، منهكون لا طاقة لهم بحياة!
ما الذى تغير الآن فى وطنك بعد الرجوع؟... أنا لم أرَ الآن يا سيدى إلا أبطالاً فى قبور ولصوصاً فى قصور، وأغنياء على ذل الفقراء يغتنون، وحكاماً على جثث الناس يرقصون، ونواباً لا يتغيرون، ووزراءَ فى مواضيع الإنشاء يتنافسون، وبعد الموت يظلون يبتلعون، وبالدين يقتلون ويكفرون
بكيت كثيراً وأنا أصف لجدتى حال الوطن بعدما تغيرت به الظروف، فالوطن الآن يا جدتاه بإسم الله شوهوه، بإسم الحب قتلوه، وباعوا ترابه وهواءه وماءه وكبرياءه، ومع ذلك يصفقون له وينشدون له كل يوم "عاش الوطن... عاش الوطن"... ثم صرخت بأعلى صوتى باكية: يقتلنى كذبهم، ويزلزلنى دجلهم أولئك الذين جيوبهم مع الوطن وسيوفهم على الوطن
لن يكفى السلطة الآن يا سيدى تقديم وعود جديدة، لأن لا أحد سيصدقها، وإنما عليها أن تأتى بأفعال تثبتها على أرض الواقع كى تعيد الثقة إلى مواطنيها فى وعودها وتعهداتها... كان هذا هو ندائى الوحيد لسلطة ما بعد الحرب
هل كان حُباً ... لا أعتقد، فمازلت لم أجد حتى الآن من يبادلنى هذا الحب الذى كان أحلم به أو حقاً أستحقه
سألنى يوماً أحد الشعراء الشباب سؤالاً أربكنى: وما هى نصيحتك لى كشاعر مقبل على الزواج، من أى فصيل من النساء سيعجبنى؟... نصيحتى إليك إذا ما أردت الإقدام حقاً على الزواج كشاعر أن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل للأدب على الأقل، لكى تفهم مشاعرك، وتشاركك إحساساتك. وإن لم تكن كذلك فحاول أن تحبب لها الدخول إلى هذا العالم الجميل، وكن لها الباب حتى تدخل إليه، حاول وحاول ولا ترتكب الخطأ الذى وقعت أنا شخصياً فيه، فإن من وقعت فى حبه يوماً ما لم يفهمنى قط، ولم يحاول أن يشاركنى إحساساتى ومشاعرى ومسئولياتى، كان يعيش فى عالم غير العالم الذى أعيش فيه، لأنه كان يجهل ما هى تلك الإنسانة البائسة التى تحرق نفسها من أجل الغاية التى تطمح إلى تحقيقها فى الذى يسمونه رقى المشاعر
طفقت أشرح لجدتى حالى... يا جدتى، ليس بى جنونٌ، ولكننى أصابنى مسٌ من عشقٍ، لمّا أسرفت فى طلب الحب. يا جدتاه، قد شيّبنى الهوى حتى هويت، وشربت منه فإزداد ظمئى وما إرتويت، وضللت مع هذا العشق الطريق
ما خلاصة كل تجاربك عن سنين الحرب؟... الأمر برمته يا سيدى يشبه عِندَما يُحشَر القِطُّ فى الزاوية، سَيُصبحُ وَحْشاً كاسراً ، لذا فنصيحتى لك أن تترك لَهُ فُرصةً للهربِ... عِندَما تُحاصِرُ عَدُوَّكَ مِن كُل الجهاتِ، إتْرُكْ لَهُ فُرصةً للإستسلام أو الهروب. فأنت إذا حَاصَرْت عدوك فى إطارِ القتل، فَسَوْفَ يُقاتِلُ حتَّى النهاية، فهو لَيْسَ لَدَيْهِ ما يَخْسَرُه، وإذا حَوَّلْتَ الخاسرَ إلى وحش، فأنتَ الخاسر... إنَّ أقوى الأعداء هُوَ الذى لَيْسَ لَدَيه ما يَخْسَرُه، وأذْكَى الأعداء هُوَ الذى يُقاتِلُك بِنَفْس سِلاحك... وتلك هى خلاصة تجربتى خلال أبشع تلك السنوات التى قضيتها فى الحرب
كانت أكثر العبارات صدى فى أعماقى وأنا أصرخ بها فى وجه كل جريح... شىء مُؤْسِفٌ أن تَهْزِمَ أعداءَكَ الحقيقين، وَتَنهزمَ أمامَ عَدُوٍّ وَهْمِى إخترَعَهُ خَيَالُكَ المريضُ
أسوأ ما عاصرت وقت الحرب فى وطنى قَاتِلٌ يَرْتكب الجريمةَ، وكَاتِبٌ يُبَرِّرُها أخلاقياً
ماذا أنتابك من شعور وأنتِ تتجولين فى شوارع تلك المدينة التى أشبعتها الحرب وخربتها؟... سيدى كنتُ حقاً أنظر فى الوجوه بنهمٍ شديد، وأرى فى كل وجه منها قصة أو حكاية، فالحرب يا مولاى قد أهدت هؤلاء الناس مسحةً من الحزن على وجوههم وقلوبهم، لا تنطفىء أبداً بالتقادم
كان أقسى شعور قاسيته من الغربة هو شعورى بأنه ما أشدّ غربتنا حين تكون إجباريّة ومحاطة بالخوف والإحساس بالقهر كلّما خطرت فى بالنا المقارنات مع الشعوب الأخرى التى نحتكّ بأفرادها يومياً ونرى بأعيننا طريقة إهتمام حكومات بلادهم بشؤونهم
هل تم تصنيفك وقت الحرب أو حتى بعد إنتهاءها؟... كان من أعمق تلك الأسئلة التى وُجِهتْ لى، فأنا أحياناً أشعرُ أنَّنا مُجبرينَ على القبولِ بكلِّ التَّصنيفاتِ الَّتى نُعِتْنا بها، ربَّما ندافعُ عنْها ونموتُ لأجلِها، لكنْ لو كانَ بيدِنا القرارُ يومَها، لما إخترْنَا أبداً أنْ نُنْسَبَ لها، ولتمنينا صدقاً عدمَ وجودِها
هل أستطعتِ التأقلم مع غربتك أم أهلكك الحنين؟... الغربة يا سيدى هى أن تعيش عمرك كاملاً بحنين وإشتياق لبيتك وأهلك، لنسائم بلدك ورائحة ترابه. الغربة تضع أعمارنا وذكرياتنا رهينة حقيبة سفر، تمر السنوات وتتجعد الوجوه ونحن نقلب عداد الأيام التى تمر... المغترب هو سجين الوقت الذى يمضى مسرعاً وراء حلم وردى، هو الإنسان الذى لم يجد الفرصة فى وطنه ولا الراحة فى غير بلده
حدّثتنى قريبة لى مرةً قائلاً: إننا جميعاً نخاف من الحرب فليس هناك مِن أحدٍ لا يخاف هذه الوحشية، ولكننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً إزاءها، قلتُ لنفسى: لا شك بأننا نخاف ﻷننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً حيال المسألة
عايشت الخوف الحقيقى وقت الحرب... فالحربُ عندما دقتْ أجراسها، صمتَ الجميع، لم يبقَ أحدٌ ينطق، حتى الطفل الصغير خفت وتلاشى له صوتاً ، ليس فى الحربِ صوتاً يا سيدى إلا صوتُ السلاحِ والقوة
عندما سمعت أن بعضَ أقاربنا قد قررَ الرحيلَ عن البلاد وقت الحرب، سألتُ نفسى بذهولٍ: إلى أين يرحلون؟... هل يفرون من الموت؟، وبينما هو السؤال يَطرحُ نفسَه في كلِ مكان، سمعتُ أحدَهم يقول ليس رحيلنا يا سيدتى هرباً من الموت إنما هو طلباً للحياة.... بتُّ يومها مشلولةَ الفكر مكتئبة، وأنا أردد: يا إلهى إلى أين نرحل؟، وهل ستقبلُنا أىٌّ أرضٍ غيرُ تلك الأرض؟ أوَ هل ستسعنا بضيقنا هذا أىٌّ أرضٍ فى هذا الوجود؟
صفى لى حياتك فى هذا الوطن قبل الغربة؟... كنت أعيش فى بيت متواضع ورثه أبى عن جدى يبعد عدة كيلو مترات عن عاصمة المدينة، رحل جدى وعمرى تقريباً عشرة أعوام، توفى أبى بعدها بسنواتٍ قليلة، أعيش الآن بلا زواج مع أم طاعنة فى السن قد هيمن بياض شعرها على سواده ونحتت السنون فى وجهها تجاعيد الوقار... نعيش يا سيدى فى سعادة قانعين بما نحن عليه لا نأبه لمشاق الحياة ومصاعبها، ولا تأخذنا تيارات مطامعها إلى جهة من الجهات... لا نفقه فى السياسة أو أمور الحكم أو الدولة لا قليلاً أو كثيراً فنحنُ حقاً لا نفهم شيئاً ولا نريد أن نفهم شيئاً... سلاحنا حب وسلام، وذخيرتنا أمنٌ وسكينة، كل ثروتنا بيت قديم، بضع دجاجات، وشجرة نستظل بها فى البهو وسط البيت... وهذا يكفى ولا نريد من تلك الدنيا المزيد!
وأخيراً ، دعونى أجب عن سؤال دوماً وُجِه لى، وأنا دوماً أتجاهله، وهو: لماذا أنتِ مبدعة؟... سؤال ضحكت عليه، إلا أننى وجدت لإجابته صدى فى أعماقى بأن الْخُطوةُ الأُولَى فى طَريقِ الإبداعِ أن تُؤْمِنَ أنَّكَ مُخْتَلِفٌ. لَيْسَ بِمَعنى أنَّكَ أفضلُ مِنَ الآخرين، ولكنْ بِمَعنى أنَّ لَدَيْكَ شيئاً لا يَمْلِكُه الآخرون. كُن نَفْسَكَ، ولا تُقَلِّد الآخرين... أرْفُض الذَّوَبان فى الآخرين... أقصرُ طَريق للعبقرية أن تَكون نَفْسَكَ، ولا شَىءَ آخَر غير نفسك