عندما سُئِلا لِمَ تركا وظيفتيهما المكتبية وانطلقا في رحلة بالدراجة حول العالم، كان لدى الثنائيّ الأميركي الشاب تفسير بسيط: سئِما الاجتماعات والمؤتمرات الهاتفية، سئِما سجلَّات الدوام وتغيير كلمات المرور.
كتب جاي أوستِن، الذي سلَّم إشعاراً باستقالته النافذة بعد أسبوعين، هو وشريكته لورين غيغن، العام الماضي (2017)، قبل أن يشحن درَّاجته الهوائية إلى إفريقيا: «ما زال هناك سحرٌ في مكانٍ ما، بهذا العالم المهول البديع».
وحدث مراراً أن ثبتت صحة قولهما.
في اليوم رقم 319 من رحلتهما، أوقف رجلٌ كازاخستاني شاحنته، وحيَّاهما، ثم أعطاهما مثلجات. وفي المرج حيث كانا قد نصبا خيمتهما في اليوم رقم 342، ظهرت عائلةٌ تحمل آلاتٍ موسيقية وترية وقدَّما لهما عرضاً مجانياً في الهواء الطلق. وفي اليوم رقم 359، قابلتهما فتاتان بشعرٍ مضفِّر على جانبي الوجه، على أوَّل طريقٍ في دولة قرغيزستان بباقةٍ من الأزهار.
لم تخلُ رحلتهما من الصعوبات أيضاً، وضمنها إطارات مثقوبة، وكلاب مُزمجِرة، وبَرَد قارس، ومرض. لكن بالنسبة لأوستين ولورين، وكلاهما في عامه الـ29، فإنَّ تلك الصعوبات فاقتها لحظات التواصل البشري التي شهداها.
ثم حدث بعد ذلك، منذ أكثر قليلاً من أسبوع، أن أتى اليوم رقم 369، عندما كان الثنائي على دراجتيهما بصحبة مجموعةٍ درَّاجة من سائحين آخرين على امتداد طريقٍ يطلُّ على مشهدٍ بديع في جنوب شرقي طاجيكستان. كان أن رأتهما، في يوم 29 يوليو/تموز 2018، سيارة محمَّلة برجالٍ يُعتَقَد أنَّهم كانوا قد سجلوا قبلاً مقطع فيديو يتعهَّدون فيه بولائهم لتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش).
يصوِّر مقطع فيديو سيئ الجودة، مأخوذٌ بكاميرا هاتف نقَّال يعود لسائقٍ شهد الواقعة ما، حدث تالياً: تمرُّ سيَّارة الرجال من طراز «دايو سيدان» براكبي الدرَّاجات ثم تنعطف بحدَّة. ترجع السيَّارة إلى الوراء، ثم تندفع قاصدة راكبي الدرَّاجات، صادمة إيَّاهم بقوة، مترنِّحة فوق أجسادهم بعد سقوطها. وفي المجمل، لقى 4 أشخاص حتفهم: أوستن، ولورين، وراكبا درَّاجة من سويسرا وهولندا.
وبعد يومين من الحادث، أصدر داعش مقطع فيديو يصوِّر الرجال الخمسة، الذين عرَّفهم بصفتهم مرتكبي الهجوم، جالسين ووراءهم عَلم داعش. يواجه الرجال الكاميرا ويتعهَّدون بأن يقتلوا «الكفار».
كانت نظرتهم إلى العالم نظرةً على النقيض التام المُمكِن تخيُّله من تلك التي حاول أوستن ولورين الحياة تيمُّناً بها. وفي أسفارهما، كتب الثنائيّ مدوَّنةً معاً وشاركا منشوراتٍ عبر تطبيق إنستغرام، تحدَّثت عن انفتاح القلب الذي أرادا تجسيده وعن الأفعال الطيبة التي بادلها إيَّاهما الغرباء.
كتب أوستن: «يراودك شعورٌ بالرغبة في ردِّ الجميل، لا فقط للشخص الماثل أمامك، ذلك الذي رحَّب بغريبٍ في بيته، لكن للعالم الأوسع. تصبح شخصاً يريد أن يرحِّب بالآخرين في بيتك أنت. تصير تاجراً في اقتصاد العطاء».
بالعودة إلى واشنطن، حيث التقى الثنائي، عاش أوستن في بيتٍ مُصغَّر، كانت تلك تجربةً باتِّباع المبادئ التي قادته في النهاية للارتحال حول العالم.
بعد حصوله على شهادة الماجستير من جامعة جورج تاون، بدأ أوستن عملاً لدى وزارة الإسكان والتنمية الحضرية الأميركية. وقالت صديقته منذ الطفولة، آشلي أوزري، إنَّه بدأ يتبنَّى أسلوب معيشة تبسيطيّاً، من يقينه بأنَّ كثيراً من الممتلكات التي يُراكِمها الناس غير ذات ضرورة.
بنى أوستن بيديه منزلاً لُقِّب باسم «علبة الكبريت»، وكان صغيراً للغاية -مساحته 13 متراً مربعاً فحسب- لدرجة أنَّه ظهر في برامج تليفزيونية عدة. ولكي يُفرِّغ مساحةً أكثر، شُيِّدت جدران المنزل وبها قطع مغناطيس مبطَّنة؛ حتى يُمكِن تخزين الأغراض المعدنية بإلصاقها إلى الألواح، مثل مجموعة البهارات الخاصة به.
إذا كان أحد أهداف أوستن هو أن يُجرِّد حياته وصولاً لأقل الأساسيات، فإنَّ الآخَر كان أن يوسِّع حدود عالمه. ولأنَّ أوستِن لم يكن مكبَّلاً برهنٍ عقاري، كان امتلاكُه بيته المصغَّر ذاك يعني أنَّ بمقدوره أن يأخذ إجازةً من دون راتب من وظيفته الحكومية وأن يسافر حول العالم.
قالت آشلي: «في نهاية كل عامِ عملٍ بوزارة الإسكان والتنمية الحضرية، بإمكانك طلب إمَّا الحصول على راتبٍ أعلى وإما أيام عطلاتٍ أكثر. لطالما اختار أوستن زيادة أيَّام العطلات».
في البدء، ذهب أوستن في رحلةٍ بدرَّاجة بخارية صغيرة (سكوتر) حول الولايات المتحدة. وبعد ذلك تَبِعها بجولةٍ بالقطار عبر قارة أوروبا. ثُم قَصَد ناميبيا تالياً. ومِن بعدها جاءت رحلة استمرت أسابيع إلى الهند، وذلك وفقاً لآشلي، التي تصادقت هي وأوستن في عام 1999 بالمدرسة الابتدائية التي ارتادها كلاهما في مدينة مانالابان بولاية نيوجيرسي.
وفي عام 2012، التقى أوستن الشابَّة لورين آن غيغن، التي وُلِدَت وعاشت جنوب ولاية كاليفورنيا وتخرَّجت مثله في جامعة جورج تاون، وكانت تعمل آنذاك بمكتب القبول بالكلية.
«يفكِّر بشكلٍ غير مألوف»، «يتحدَّاني لكي أنضج»، «مُغامر»، هكذا وصفت لورين الشاب أوستن لصديقتها المقرَّبة، هذا ما قالته كريستن باوتز روبينسون، التي عرفت لورين منذ عامهما الأوَّل في جامعة جورج تاون.
كان أوستن نباتياً خالصاً (أي لا يأكل منتجات الألبان والبيض، بالإضافة إلى اللحوم). وقالت أماندا كيريغان، صديقة لورين المقرَّبة، إنَّها أصبحت نباتية هي الأخرى.
وفي عام 2016، أخبرت لورين صديقتها أماندا بأنَّها تخطِّط للاستقالة من وظيفتها والقيام برحلةٍ حول العالم بالدرَّاجة. لم تستطع أماندا آنذاك أن تُخفِي القلق الذي راودها. وقالت: «قلتُ لها: «لستِ لورين التي أعرفها». غيَّر جاي (أوستن) مسار حياتها كلياً.
وإن بَدَت خطَّتهما جنونية بعض الشيء، فإنَّ الثنائي كان منهجياً في التخطيط للرحلة. أجريا جولةً اختبارية في آيسلندا، راكبَين دراجتيهما عبر الوِديان هناك.
وحيث كان عليهما أن يحملا كل شيءٍ يقتنيانه بنفسيهما، أولى الثنائي اهتماماً ثاقِباً لكل غرضٍ. وحين مرَّ مراسلٌ صحافي بمنزل أوستن ليكتب تقريراً عنه، وجده واقفاً أمام ميزان، يزن المقتنيات التي خطَّط لرصِّها في حقيبته؛
قبعة: 57 غراماً، لوح إلكتروني (تابلت): 312 غراماً.
وجد الثنائي على الإنترنت أوراقاً للَّعب (كوتشينة)، مقاسها (2.52.5 x) سنتيمتر فقط. وقالت هولي غيغ، عمَّة الشابَّة لورين، التي كانت في زيارةٍ للثنائي عندما وصلت إليهما مجموعة الكوتشينة الضئيلة بالبريد: «عادة لا تكون مجموعة أوراق اللعب العادية بهذا الحجم، وهذا يُريك إلى أي مدى خطَّطا بإمعانٍ لرحلتهما».
قضى الثنائي شهوراً يدَّخران المال، لكنَّ الوقت كان قد حان لاتخاذ قراراتٍ كُبرَى: لم تكُن الرحلة يُمكن تغطيتها تحت اسم أية إجازةٍ مطوَّلة.
كتب أوستن في منشورٍ بمدوَّنته بالشهر السابق لرحيله الصيف الماضي: «استقلتُ من عملي اليوم».
وكتب: «سئِمتُ قضاء معظم ساعات يومي أمام مستطيلٍ مضيء، سئِمتُ تلوين أفضل سنوات حياتي بمساحاتٍ من اللون الرماديّ والبنيّ الفاتح. فاتني أن أشهَد غروب الشمس مرَّاتٍ أكثر ممَّا يلزَم وأنا أولِّي نظري عنه. عواصف رعدية كثيرة لَم أرها، نسَماتٌ رقيقة عِدَّة لم أحسها».
يوم أن ودَّعت لورين وأماندا إحداهما الأخرى، تعانقت الصديقتان أمام شقَّة لورين.
أخبرتها أماندا: «في اللحظة التي تخبرك فيها غرائزك بأنَّ هناك خطباً ما، غادري». كانت أماندا قلقة على صديقتها، وكان هذا يرجع جزئياً لطبيعة لورين طيِّبة القلب، وجزئياً لأنَّها خَشَت أن يكون أوستِن يتقبَّل مواجهة الخطر أكثر ممَّا كانت لورين.
قالت أماندا: «عندما يموت شخصٌ ما، سيقول الجميع دوماً: (أوه!! لقد كان شخصاً رائعاً)، لكنَّ لورين لم تكن فقط شخصاً جيداً؛ بل كانت استثنائية في قُدرتها على التواصل مع الناس، وفي عطائها، بشكلٍ كان سيُرهِقني إن حاولتُه».
بدأ الثنائي رحلتهما في أقصى جنوبي قارة إفريقيا بخطأٍ في الحسابات وضعهم بمأزقٍ عصيب. كان ذلك في يوم 23 يوليو/تموز عام 2017 -في جنوب إفريقيا شتاءً، حيث تغرب الشمس في الخامسة والنصف مساءً- ولم يكونا قد أدركا المسافة اللازم قطعها على الطرق السريعة المزدحمة حتَّى يخرجا من مدينة كيب تاون.
وبحلول الغسق، ثُقِب إطار الثنائي وسط فوضى الطريق السريعة آر-27. لم يكن هناك مكان يمكنهما نَصب خيمتهما فيه سوى مصرفٍ بمحاذاة الطريق السريعة متَّصلة الحركة.
وفي مدوَّنة فسَّر فيها لِمَ اختارا ركوب الدرَّاجة -وليس قيادة السيَّارة، مثلاً، حول العالم- تحدَّث أوستن عن قابلية التعرُّض للخطر والمتمثِّل في كونك على متن درَّاجة. وكتب: «ومع القابلية تلك يأتي كرمٌ مهول: سيرى الناس الطيِّبون قلة حيلتك هذه ويُدرِكون أنَّك بحاجةٍ للعون بأي شكلٍ كان، ويقدِّمونه لك فيضاً».
وفي منتصف الليل، رأى خيمتهما حارسُ أمنٍ يقوم بدورية في أراضي محطةٍ نووية قريبة. اتَّصل الحارس عبر اللاسلكي طالباً المساعدة، ورتَّب أن تأتي شاحنةً وتقلُّهما عبر المدينة إلى موقعٍ للتخييم.
كانت رحلتهما سلسلةً من الاختبارات الجسدية الشاقة، والمُنهِكة أحياناً، تخلَّلتها أحداثٌ مِن العَطف الإنساني.
استأنف الثنائي رحلتهما شمالاً، قاطعَين صحراوات كانت رمالها عميقة لدرجة أنَّهما اضطرا إلى الترجُّل ودفع درَّاجتيهما.
وفي بوتسوانا الإفريقية، أوقَف رجلٌ شَعَرَ بالقلق إزاءهما سيَّارته وقدَّم لهما ماءً مثلَّجاً في حين كانا يبدِّلان بالدراجة في درجة حرارة 35 مئوية.
ركبا دراجتيهما على طُرقٍ ترابية، وعبر مجاري أنهارٍ جافَّة، وعلى أسفلتٍ متصدِّع، سائرَين أياماً بلا استحمام. وفي المغرب، عرضت عليهما أسرةٌ مغربية غرفةً للمبيت، وودَّعوهما في الصباح التالي بهديةٍ من خبزٍ أعدّوه بالمنزل.
صارت الأيام أسابيع، والأسابيع شهوراً. بدأ الوَهَن يصيب جسديهما. وأدَّى التهابٌ بالأذن إلى أن يُزَجَّ بلورين في غرفة الطوارئ بمستشفى في فرنسا. أصيب كلاهما بالتهاب الملتحمة (أو مرض العين الوردية). تحمَّل الثنائي وأكملا رغم الارتباك المعوي واحتقان الحَلق.
كان الشتاء قد حلَّ عندما وصلا إلى أوروبا في ديسمبر/كانون الأول 2017. بلَّل المطر الغزير قفازاتِهما المضادة للماء. قالا في منشورٍ مِن إسبانيا، واصفَين حالتهما: «بلا أي أمل، ومبلَّلان، ونشعُر بالبرد».
بعد بضع ساعات، توقَّف ثنائيٌ في شاحنةٍ بيضاء قبالتهما، وأعطاهما مِنشفة، ثم أصرَّا على أخذهما إلى منزلهما، حيث جفَّفا ثيابهما المشبَّعة بالماء في آلة تجفيف الملابس.
لكن على مدار أسفارِهما، أشارت مدوَّنتهما إلى تعرُّضهما لحوادث خاطِفة من القسوة البشرية كذلك.
على امتداد ممرٍ جبلي، سدَّت جماعةٌ من الرجال الطريق عليهما وحاولوا إيقاعهما من على درَّاجتيهما.
وعلى بُعد 45 متراً فقط من الحدود الإسبانية، ووسط ازدحامٍ مروري خانق، أشار أوستن لسائق إحدى السيَّارات بأنَّه يريد المرور أمامه. تركه سائق السيَّارة يدلُف من أمامه ثُّم -ببطءٍ وعن عَمد- بدأ يحاول دهسه، ما جعل درَّاجة أوستن تُحبَس بين السيارة المتقدمة نحوه من الخلف والأخرى التي أمامه.
ومع ذلك، بحلول أن وصل الثنائيُّ إلى منعطف خط سيرهم المتمثِّل في طاجيكستان منذ ما يتعدَّى الأسبوع بقليل، كانا قد تبنَّيا نظرية تقول إنَّ العالم طيِّبٌ بشكلٍ يفوق الوصف، هذا ما تُصدِّق عليه عشرات الصور المُذيَّلة وآلاف الكلمات التي تركاها مِن بعدِهما.
كتب أوستن: «تقرأ الصحف وتُساق كي تصدِّق أنَّ العالم مكانٌ مخيفٌ وسيئ. لا يجب الوثوق بالناس، هكذا يُسرَد عليك: الناس سيئون. الناس أشرار».
وقال: «لا أصدِّق هذا. ليس الشر سوى مفهوم تخيُّلي اخترعناه للتعامُل مع تعقيدات إخوتنا البشر ممَّن يحملون قِيماً ومعتقداتٍ ومفاهيم مختلفة عنَّا… في العموم، البشر طيِّبون. قد يكونون مهتمِّين بمصلحتهم الشخصية أحياناً، أو قصيري النظر في أحيانٍ أخرى، لكنَّهم طيِّبون».
وكتب أوستن: «لا اكتشاف أعظم من هذا تبدَّى عن رحلتنا هذه».
في الفيديو الذي نشره تنظيم داعش بعد موت الثنائي، يظهر الرجال مُتعهدو الولاء للجماعة جالسين على لوحٍ صخري، ويظهر جزءٌ من بحيرة مائية على اليسار مِن ورائهم. مشهدٌ لربما توقَّف الثنائي الشاب لتصويره ونشراه على مدوَّنتهما.
لكن في المقطع، عندما يشير الرجال إلى المشهد الماثل وراءهم، فإنَّهم يتوعَّدون بذبح «الكفَّار» الذين يجتاحون أرضهم.