النَّـمليّـَة..متحف الفقراء في عُلب الصَّفيح
وليد حسني
النَّـمليّـَة
لم تكن مجرد خزانة خشبية تاخذ مكانها اللائق بها في صدر علبة الصفيح داخل المخيم، بالقدر الذي كانت تقوم فيه بدور المتحف المكشوف، فضلا عن مراعاة قيم المباهاة لسيدة الصفيح.
والنملية.. لم تكن خزانة تختص بالمطبخ، فقد كان مكانها اللائق داخل غرفة الصفيح، وهي الغرفة متعددة الأغراض،فهي مطبخ، وغرفة معيشة، وصالون لاستقبال الزوار، ومكان للاستحمام، وغرفة نوم جماعية لكامل افراد العائلة، وهي أيضا غرفة نوم مشتركة ما بين العائلة والضيوف.
كل تلك المساحة الصغيرة لغرفة الصفيح لم تكن لتخلي أي مكان في داخلها المكتظ إلا للنملية التي بدأت تاخذ مكانها في غرف الصفيح بعد ان بدأت وكالة الغوث بتسليمها لأهالي المخيم في النصف الثاني من سنة 1968، وكان نظامها يتلخص في غرفتين متلاصقتين من الصفيخ "الزينكو" يفصل بينهما حائط من طوب قياس 10 سم، ويفصل بينهما من الخارج جدار يمتد لمتر ونصف بارتفاع متر ونصف.
علب الصفيح هذه التي قسمت لمساحات متساوية ( 96 متر مربع ) سمحت للجيران بأن يكونوا أكثر حميمية مع بعضهم البعض، وهذا ما يفسر السر وراء كل هذه العلاقات المتشابكة بين أهالي المخيم خاصة الأجيال التي عاشت تلك المرحلة، فقد تحول الجيران إلى عائلات مشتركة ومفتوحة على بعضها البعض خاصة وان البيئة الإجتماعية في المخيم لم تكن تشهد مثل هذه التعقيدات التي نشهدها حاليا.
لم تكن النملية إذن أثاثا فائضا عن الحاجة في علب الصفيح، فقد كانت سيدات الصفيح من امهاتنا يعتبرنها"واجهة البراكية "، ففيها تعرض الكاسات الزجاجية وفناجين القهوة، والعلب الأخرى المتنوعة لحفظ السكر والشاي وحتى الملح، وكانت هذه العلب إما علب حليب قديمة، أو علب زيت سيارات.
وبالكاد كانت النملية تخلو واجهتها الزجاجية من صورة بالأسود والأبيض إما للعائلة مجتمعة أو للوالد أو للجد، وفي أسفل النملية كانت توضع صحون"التوتياء" أو الالمنيوم، فضلا عن طناجر الألمنيوم وغيرها من ادوات المطبخ الضخمة، من بينها بالطبع طنجرتين من الأمنيوم بحجمين مختلفين كانت جميعها من بين الأدوات التي تسملها اللاجؤون من وكالة الغوث.
ظلت النملية تاخذ مكانها في صدر علبة الصفيح حتى بدأ أهالي المخيم يتوسعون في البناء قليلا ويضيفون غرفة من الطوب إلى جوار علبة الصفيح، ليصبح المبنى الجديد محورا لمرحلة جديدة بدأت بلجوء اهالي المخيم لوضع أسوار من السلك الشائك والقماش على كامل مساحة المنزل.
انتقلت النملية الى غرفة اللبن الجديدة، فهي لا تزال في هذه المرحلة تحتفظ بكامل أناقتها ووظائفها المتعددة داخل المنزل، ومن الملاحظ ان الانتقال من علبة الصفيح الى غرفة اللبن منح النملية دورا وظيفيا جديدا تمثل في تخليصها من العديد من ادوات المطبخ والإكتفاء بجعلها خزانة عرض للمقتنيات الثمينة فقط على نحو الراديو، وكاسات الماء التي لا تستخدم إلا للضيوف"اللي جايين من بره"، وفناجين القهوة، الى جانب صحون الزجاج الصيني التي لم تكن تستخدم أبدا إلا في حضرة الضيوف فقط، بينما يكتفي الأهالي باستخدام صحون الألمنيوم في تفاصيل حياتهم اليومية.
لم تكن مرحلة"الفورمايكا" قد غزت البيوت في تلك الفترة، ولذلك كانت النملية تاخذ ثوبها الجميل بالوان متعددة منها الأخضر والأزرق والبني وهي الألوان الأكثر استخداما في طلاء النملية التي بدأ يتم تصنيعها داخل المخيم وبأيدي محلية من نجارين من أبناء المخيم.
في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي بدأ مجد النملية يخبو ويتلاشى بعد ان تم نقلها الى المطبخ، واًصبحت جزءا من تراث المطبخ وادواته في المخيم ليحل محلها"البوفيه" وهو شكل أكثر تطورا من النملية وأكبر حجما إلا أنه بالنتيجة ظل يقوم بدور النملية.
تخلى الناس في المخيم عن النملية لأنها لم تعد تؤدي الدور الذي كانت تؤديه في السابق، ومع التطور والتحول من ثقافة الشادر والقماش الى ثقافة الزينكو ثم ثقافة الإسمنت فقد بدت النملية جزءا من الماضي ولا تتناسب مع تلك القفزات في ثقافات المخيم وأبنائه.
اليوم لم تعد النملية تراثا ماضويا تلاشى تماما، بل تحول الناس أنفسهم للقيام بدور النملية ووظائفها..