وليد حسني
تحسس عبد الصمد ابن الستين عاما جيبه وهو يرتمي في أحضان المقعد الأخير من باص الكوستر العامل على خط صويلح - دوار الداخلية، أخرج نصف دينار معدنيا ونقده للكونترول الذي تأفف في وجهه وتمتم بكلمات بدت غير مفهومة له.
رد الكونترول بعصبية بالغة وظاهرة وبصوت مرتفع لفت انتباه الركاب المكدسين على مقاعد الباص" ما فيش فكه"، فاضطر عبد الصمد لبلع لسانه، فهو يعرف تماما ان هذه هي المرحلة الأولى من مراحل ضياع حقوقه التي طالما تحدث عنها لطلابه في المدرسة التي قضى اكثر من نصف عمره مدرسا فيها، فقد كان في شبابه مولعا بحقوق المواطن، وبالحرية، وبالحياة الكريمة، قبل أن يتحول لمجرد ماكينة او جهاز تسجيل يردد ما في الكتب المدرسية لسنوات طويلة.
التزم عبد الصمد المدرس المتقاعد حديثا من وزارة التربية الصمت المطبق حتى لا يصبح ضحية بذاءة لسان الكونترول، وظل طيلة الطريق ساهما واجما يسرح بخياله في أفق ممدد أمامه لا يرى له نهاية، وهو أصلا لم يبحث عن مثل تلك النهاية، فقد كان يحدق في حركات الكونترول وعصبيته الظاهرة وطريقة تعامله مع الركاب، وصوت المسجل والضحكات المبتذلة والمتبادلة بين سائق الكوستر والكونترول المتباهي بسلطته.
فكر عبد الصمد في المشهد الذي يراه أمامه، تحسس ذقنه التي لم يحلقها منذ ثلاثة أيام واسترق نظرة الى فتاتين تتكومان فوق بعضهما البعض في مقعد منفرد، والكونترول يمارس آخر صيحات الرعونة والتحرش الكلامي، قال عبد الصمد في نفسه يبدو انهما طالبتان جامعيتان، وبين التعليقات والكلام البذيء الذي يطلقه الكنترول بين الفينة والأخرى همَّ عبد الصمد بالتدخل إلا أنه تراجع عن تفكيره، "يبدو أنني تعودت على اتخاذ قرارات خاطئة" قال عبد الصمد ذلك في نفسه بينما ظل يمسد تباشير ذقنه البيضاء براحة يده اليسرى.
" راكب ابو ربع الليرة" ارتفع صوت الكونترول مختلطا مع صوت الأغنية التي تلعلع من مسجل الباص، وسأل عبد الصمد نفسه" المواطن صار بربع ليرة"، هناك تسعيرة جديدة للمواطن، يا ترى كم تسعيرتي أنا في نظر الكونترول" سأل عبد الصمد نفسه" لأ أنا بنصف دينار، والأهم أنه صادر القروش الخمسة التي هي من حقي ويجب عليه أن يعيدها لي لكنه لم يفعل، أكل حقي عنوة هذا الكونترول"، وعاود التحديق في داخله فيما كف يده اليسرى لا تزال تتلمس بهدوء شعرات ذقنه".
سرح عبد الصمد قليلا فيما يراه" الكونترول سيد في باصه إنه يملك السلطة المطلقة هنا، لا أحد يستطيع الحديث معه أو زجره، بل إنه يتصرف باعتباره مالك الكوستر والسائق موظف لديه، وقف، نزل، طلع .. كلمات ثلاثة أشبه بالأوامر الصارمة التي لا يفكر سائق الكوستر حتى مجرد مناقشتها، فليس للسائق على الكونترول أية سلطة".
وتابع عبد الصمد تفسير المشهد الذي يراه أمامه في سبيل التلهي بأي شيء يقطع به الطريق الى دوار الداخلية ثم الى العبدلي لمراجعة وزارة التربية بشان معاملات تقاعده" الكونترول يعتقد في نفسه أنه يملك القوة الكاملة لزجر أي راكب في باصه، ولا يعتقد للحظة ان أحدا يمكنه التجرؤ عليه هنا، هو بالتأكيد السيد المطلق، يتصرف بوحي من هذا الشعور الغريب المركب، بل ويعتقد ان صمت الفتاتين في مقعد واحد واحتمالها كل فحش كلامه ونظراته، وتحرشه هو من باب رضا الجنس الآخر عن ذكورته وبطولته، هنا باص الكوستر يمثل دولة بكاملها يقودها كونترول يعتقد ان لا أحد يمكنه النظر إليه او سؤاله عما يفعل".
" إنت واحد ما بتستحي" ارتفع صوت ذكوري من المقاعد الأمامية، وفجاة بدأ العراك، كان صاحب الصوت شابا في الثلاثينيات من عمره، لم يستطع عبد الصمد رسم ملامحه تماما، لكنه أدرك ان ثمة أزمة وجد نفسه فيها ، عراك من النوع الذي يتقنه الكونترول، وسيجد الرجل الثلاثيني نفسه هدفا للضرب والشتم بدءأ من جده الخامس الى حفيده الخمسين مرورا بكل نسائه وأهله.
اشتعلت حرارة الكوستر من الداخل، الكونترول يلقي بالشتام شذر مذر ويهدد المواطن الثلاثيني بالذبح وبالفضائح بينما عدد من الركاب الوقوف حالوا بينه وبين استمراره بالتهجم على الرجل الثلاثيني" هنا الكونترول يمارس سلطته بالقوة المحضة، يمارسها بالقوة التي يعتقد أنه يمتلكها بالفطرة أو بالإكتساب، لكن هذه السلطة نحن الركاب الذين منحناه إياها بسبب قبولنا بكل حركاته، وسمحنا له بذريعة الخوف أن ياكل علينا ما تبقى لنا من حقوق عنده".
تدخل سائق الباص بعد ان اوقف الكوستر وتناول عصا غليظة من تحت مقعده وسأل الكونترول "ِشو فيه؟؟" ، بدا وكأنه لا يعرف ما جرى، ولم ينتظر ليعرف فقد توجه مباشرة ليعتدي على الراكب الثلاثيني، وهنا بدت رعونة الكونترول ترتفع لتصل أوجها طالبا من جميع الركاب النزول من الباص حتى يستطيع "تأديب الراكب الثلاثيني".
تبسم عبد الصمد وراقب ما سيفعله الركاب وكيف ستكون ردة فعلهم، نزل الركاب جميعهم لكن عبد الصمد لم ينزل رفض النزول من الباص، وتجاوز حده بأن شتم الكونترول والسائق..
عندما وصل عبد الصمد الى المستشفى ينزف دما من وجهه ويشعر بآلام حادة في صدرة وبطنه وجمجمته لم ينتبه لسؤال الشرطي في المستشفى عما حدث له، كان فقط يردد بينه وبين نفسه" الحق على الركاب، لو لم يطيعوا الكونترول وينزلوا من الباص لما استطاع هو والسائق ضربنا.. الحق على الركاب .. الحق على الركاب..الحق على الركاب..".//