الأنباط -
د. مهند العزة
حينما تم إنشاء المركز الوطني لحقوق الإنسان، كانت الآمال معلقةً عليه ليكون منارة حماية الحريات والدفاع عن حقوق المواطنين وترسيخ ثقافة الحقوق والحريات على المستويين الفردي والمؤسسي. وبالفعل كانت سِنْي المركز الأولى تبشر بذلك، حيث كان الأداء ومخرجات العمل تشير إلى مؤسسة قوية تتمتع بقدر معقول من الاستقلال مقارنةً بمؤسسات وطنية أخرى، وأصبحت التقارير السنوية للمركز وبعض زياراته التفتيشية مصدر إزعاج لبعض الجهات التنفيذية التي لم تألف الرقابة الحقوقية الحقّة، لتتعزز الصفة الرقابية للمركز وليتبوأ مكانةً ويحقق سمعةً طيبةً على الصعيدين المحلي والدولي، هذا فضلاً عن تخريجه لعدد من الكفاءات والخبراء والخبيرات الذين تخاطفتهم المؤسسات الدولية بعد ذلك.
بعد أن تم تسيس عمل المركز على أيدي جماعة الإسلام السياسي،تحوّل إلى معول يفتّ في عضد الحقوق والحريات بادئاً بأبنائه وبناته الذين على أكتافهم قامت لبنته الأولى، لمجرد أنهم أرادوا مؤسستهم كما حلموا بها وعملوا على تعزيزها؛ معقلاً للدفاع عن الحريات بكل المتاح والممكن وبيت خبرة معتبر محلياً وإقليميا، فأعلن أمير الجماعة الجهاد عليهم وبدأ فعلاً يجاهد فيهم.. مع تهليل الدراويش وسكوت العارفين وبؤس حال «غايبين الفيلة» ممن لا يرجى نفعهم ولا هم يضرون.. باتت أحوال المركز -بكل أسى وأسف- مثاراً للشفقة والبلية التي شرّها يُضحِك المتأسين ويفرح الشامتين. لم يجد الحاكم بأمره في إمارته حتى وهو يشدّ الرحال غضاضةً ولا رادعاً من أن يستمر في مسلسله التدميري لمؤسسة تقوم على نقيض أيديولوجيته وفكر جماعته الأم؛ فتمضي القرارات العبثية التي تعمد إلى الاغتيال المعنوي مهنياً واجتماعياً للقلة المتبقية التي تمكنت من الصمود حتى اللحظات الأخيرة في وجه آلة التدمير المؤسسي المنفلتة، ومما يدمي القلب أن وقود هذه الآلة التدميرية مستخرج من نصوص تشريعية كان المركز نفسه ينادي بتعديلها وإلغاء بعضها لما تمثله من افتءات على حرية الرأي والتعبير.
في حديث مع بعض من يتوسم فيهم الخير حول ما يبدو كأنه موقف صامت مما يجري من عبث بهذه المؤسسة الوطنية، قالوا أنهم «يحاولون وضع حد لجور أمير الجماعة وشيخ الطريقة ومريديه ودراويشه وتنابلته.. وأنهم يحولون دون تردي الأوضاع إلى ما هو أسوأ»، لكن الواقع يقول غير ذلك، إذ يمضي الأمير معملاً سيفه في كل من يعارضه أو يخالفه وتدوس سنابك فرسه التي غنمها من غزوة «لا نجوت إن نجت الحقوق أو المساواة أو الحرية أو الجندرية..» كل من يقف في طريقه، وبغض النظر عن موقف هؤلاء أو ألائك أو أصحاب اللا موقف، فإن الشاهد أن سُنّة الله والناموس يصْدُقان في كشف هؤلاء في كل مرة يخرج أحدهم فيملأ الفضاء نداءً مضللاً وادّعاءً كاذباً بأنه يمثل «الاعتدال والوسطية».. لتغلب حقيقته المرة المتأصلة قناعه التجميلي الذي ابتاعه من بسطات وسط البلد أمام المسجد الحسيني الكبير، فإذا به لا يقوى إلا أن يكون عنواناً ومضموناً للتطرف والإرهاب الفكري وإساءة استخدام السلطة حتى وهو يتركها -مكرهاً غير مختار- للتنكيل بمن يريدهم أعداءً ينسج على أشلاء حقوقهم بطولات في ملحمة الوهم والخيال: «قاااااادم.. قااااادم.. قااااادم..».
جريمة الاغتيال المؤسسي المنظمة التي يتعرض لها المركز منذ فترة ليست بالقصيرة؛ طالت سمعته الدولية التي اكتسبها بفضل عمل وجهد الجيل المؤسس وعدد من أبنائه وبناته المخلصين، فإذا هي تتهاوى إلى حيث لا قرار مع عبثية اتخاذ القرار، والمفارقة المبكية أنه في الوقت الذي يعد هذا التراجع في المكانة الدولية ضرراً جسيماً يلحق ليس فقط بالمركز وإنما بالأردن الذي كان قد بدأ يحقق تقدماً ملموساً في مجال حقوق الإنسان، فإنه يدوّن في سجل «الفاعل الأصلي وشركاؤه بالتحريض أو المساعدة أو التأييد.. إنجازاً ونصراً مؤزراً على دعاة الحريات.. والحقوق.. والمساواة الجندرية.. وقانون حقوق الطفل.. أصحاب الأجندات الأجنبية»، ولا تسأل أيها الطيب عن كيف ينطفئ الحياء في وجوه من يشنّعون على «أصحاب الأجندات الأجنبية» ثم هم يسارعون إلى الحج والطواف والسعي بين أروقة الحكومات والبرلمانات والفنادق في «ديار الكفر.. دول الفجور والفسوق.. التي تصدر أجنداتها لعملائها في الوطن»، وأكثر من ذلك كيف يقبل «ولا مآخذة، حماة المجتمع المتماسك.. حرّاس التقاليد.. خط الدفاع الأول عن القيم ضد المؤسسات الدولية وأجنداتها المشبوهة..» أن يكون جزء كبير من نفقات عملهم وأنشطتهم وربما جزء من رواتبهم ومكافءاتهم وما يلتهمونه من وجبات وضيافة أثناء الورش والنشاطات.. مدفوع من هذه الجهات «المتؤامرة صاحبة المال الحرام»؟
إن كان ما يحدث هو انفلات وافتئات خارج عن سيطرة الدولة على منظومة حقوق الإنسان؛ فتلك مصيبة لا تقوى عبارات على وصف عِظَمِها وجللها، أما إذا كانت المجزرة التي تنفذ في حق منظومة الحقوق والحريات وتشريعاتها ومؤسساتها.. منذ فترة مردّها استمرار السردية التسلقية التي احترفتها الجماعة منذ نشأتها بالتحالف مع قوى عميقة في الدول التي نبتت فيها؛ حيث تسخّر نفسها أداةً رخيصةً تُنَفَّذ من خلالها المهام القذرة "Dirty Jobs” التي تعفّ تلك القوى عن تنفيذها بنفسها بشكل مباشر،وعادةً ما تطال هذه المهام القذرة: الممارسات والتشريعات المرتبطة بالحياة الديمقراطية والحقوق والحريات.. إذا كان ذلك كذلك، فهذه أيضاً مصيبة عظيمة لكنها أخف وطأةً من سابقتها لأنها تقع في حدود المتوقع من هذه الجماعة وأخواتها ومنن عصبة حلفائها ومؤجّريها.
سوف تنتهي هذه الحقبة القاتمة المظلمة وهي حتماً إلى أفول، لتبقى قامات الضحايا وأصحاب المواقف الُمشَرِّفة؛ عاليةً.. ووجوههم مُسْفِرة.. ضاحكةً مستبشرة، بينما رؤوس سفاحي حقوق الإنسان وعسسهم وبصاصيهم ومحتسبتهم ومحاسيبهم؛ كديدنها مطأطأة.. ووجوههم مقفهرّة.. عليها غبرة وترهقها قترة، ليلجأ كل مضطر إلى لقائهم إلى وضع منديل أو مشبك غسيل على أنفه ليتقي رائحة بهتانهم وإفكهم الكريهة.