الأنباط -
بقلم:د. رلى الحروب
انتهاك سيادة الدول وتغيير حكوماتها بالقوة وتدمير بناها التحتية وقتل المدنيين وقصف المستشفيات هي سلوكات غير مقبولة وغير مبررة في اي مكان في العالم وتحت اي ذريعة، هذا عدا عن كونها انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة.
الهجوم الروسي على اوكرانيا ومهما كانت وجاهة مبرراته من منظور روسي أمني، يبقى عدوانا يضرب عرض الحائط بالقانون الدولي، واستقواء على دولة جارة لا تملك قدرات تؤهلها للصمود، عدا عن كونه تدميرا لمقومات الدولة واعتداء على حقها في السيادة وحق شعبها في الحياة والنمو والازدهار وتقرير المصير.
والعجيب الغريب ان روسيا ترأس حاليا مجلس الامن الدولي الذي يفترض ان مهمته الاولى والغاية الاساس من انشائه هي فرض الامن والسلام في العالم، ومع ذلك فانها اقدمت على فعلتها هذه في هذا التوقيت بالذات، وكانها تسخر من العالم اجمع، تماما كما سخرت منه في قصة الحشود العسكرية على الحدود، والالاعيب الدبلوماسية والدعائية التي مارستها طيلة شهرين!
والاعجب الاغرب ان لا يتحرك اعضاء مجلس الامن الدولي للمطالبة بتنحي الرئيس، فلا يعقل ان تغزو بلاده بلدا ذا سيادة عضوا في الامم المتحدة وتنتهك ميثاق هذه المنظمة الدولية ومبادئ مجلس الامن، ويبقى في موقعه!
طبعا السبب هو ذلك النظام العقيم الذي بني عليه مجلس الامن بالاساس وتلك الحصانة لأعضائه الخمس الدائمين الذين باتوا فوق اي محاسبة بعدما نصبوا انفسهم سادة للعالم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن أعضاء مجلس الامن جميعهم بيوتهم من زجاج، وغارقون في الخطايا حتى آذانهم، فمن هو ذا الذي سيقذف المجدلية بالحجارة؟!
مندوب اوكرانيا في الامم المتحدة وفي نبرة يغلفها الألم طالب رئيس مجلس الأمن بالتنحي وقال له: هذا ليس مكانا لمجرمي الحرب. مكانهم الوحيد هو جهنم. ولكن اغلب الظن ان صيحته ستذروها الرياح فنادي القوى العظمى بطيء في حركته متردد حين يمس الامر عضوا من أعضائه، خاصة حين تشتبك المصالح!
الرد الوحيد لاميركا وحلفائها كان التلويح بالعقوبات الاقتصادية، ولكن فرض عقوبات اقتصادية في مواجهة عدوان عسكري قائم ويحقق أهدافه، رد غير فعال.. العقوبات لها تاثير، هذا صحيح. ولكنها لا تؤثر الا على المدى المتوسط والبعيد، في حين ان المطلوب الان فعل عسكري او امني او سيبراني او حتى سياسي او دبلوماسي يوقف العدوان على اوكرانيا، وهو ما لن يحدث على ما يبدو لان شعوب اوروبا وامريكا الشمالية لن تدخل في مواجهة مع دولة نووية دفاعا عن اوكرانيا، فأوكرانيا ليست الكويت وروسيا ليست العراق! كما ان حجم المخاطر الناجم عن اي مواجهة اعظم بكثير من خسارة اوكرانيا!
عندما سأل الصحافيون بايدن عن اسباب عدم توقيع عقوبات على بوتين امتنع الرئيس الاميركي عن الرد، وعندما استهجنوا تأخير العقوبات الموعودة على جهات مصرفية واشخاص طبيعيين واعتباريين في روسيا وعدم تطبيقها فورا لم يعلق بايدن، وعندما سألوه عن جدوى العقوبات قال انها مجدية وانه متفائل.
الموقف الاميركي الباهت، واعلان عدم التدخل الا في حال مهاجمة دولة عضو في الناتو، والاكتفاء بارسال بضعة الاف من الجنود الى المانيا لطمأنة هواجس الحلفاء الاوروبيين، هو اشعار ضمني لروسيا بالمضي قدما في مهمتها لاسقاط حكومة كييف.
هذا الموقف الباهت يمكن عزوه الى الاحتمالات التالية بعضها او كلها:
الاول: عدم قدرة القيادة الامريكية على اجتراح رد مناسب في مواجهة دولة نووية نفطية متفوقة تكنولوجيا وسيبرانيا ودعائيا وعسكريا تخشى الدخول معها في صدام قد يجر الى عواقب أوخم وربما يتسبب في حرب عالمية ثالثة، لا سيما وان روسيا بوتين تحولت الى قوة عظمى دولية وليس اقليمية فحسب، مع توسع نفوذها في آسيا وافريقيا واوروبا وامريكا الجنوبية، كما تمكنت من بناء اعتمادية اقتصادية اوروبية عنوانها الأعرض الغاز ، هذا عدا عن تفوقها بلا منازع في عالم تكنولوجيا الاتصالات والذكاء الصناعي، كما في ميدان صناعة الاسلحة.
الثاني عدم ايلائها الاولوية الكافية للمعضلة الاوكرانية في ظل وجود اولويات اخرى اعلنها بايدن عند توليه السلطة كالصين وكورونا وأزمة المناخ والسباق التكنولوجي، وفي ظل تقييم ادارته للمسالة باعتبارها لا تهدد الامن الامريكي تهديدا عاجلا حتى وان كانت تقلق حلفاءها في اوروبا، وهو ما يفسر التقاعس طيلة السنوات الماضية عن تسليح اوكرانيا تسليحا كافيا ورفع قدرات جيشها وحكومتها وشعبها وكافة مؤسساتها الى الدرجة التي تمكن كييف بالحد الادنى من ان لا تكون لقمة سائغة لموسكو تمضغها كلما شاءت.
الثالث: في ضوء تقييم الموقف وعجز امريكا وحلفائها عن الاصطدام مع روسيا ربما اختارت الادارة الامريكية اهون الشرين وهو التخلي عن حكومة كييف والسماح لموسكو بفرض حكومة حليفة لها بالقوة، مع المضي قدما باضعاف روسيا اقتصاديا على المدى المتوسط والبعيد للحيلولة دون توسع شهيتها باتجاه احياء الاتحاد السوفياتي، وهو ما يعتقد بايدن ان بوتين ماض قدما باتجاهه. ولكن روسيا ليست ايران ولا سوريا ولا العراق ولا السودان، والعقوبات لن تضعفها الى حد التخلي عن طموحاتها، لا سيما وانها تحظى بدعم جاراتها: الصين وايران والباكستان وبيلاروسيا وما يقرب من ثلث دول العالم وربما نصف سكانه. بل ان ايران نفسها ( وهي ليست بحجم روسيا ولا بثقلها) ما زالت صامدة ترسخ مكانتها اقليميا وتناور وتفاوض دوليا رغم كل العقوبات!
الرابع: ان يكون هناك تفاهم خفي ضمني او صريح بين الادارتين الامريكية والروسية، تماما كما حدث في سوريا: إدانات فوق الطاولة وتفاهمات من تحتها، والسؤال هو ان كان الامر كذلك فما هي الجائزة الخفية؟
وبغض النظر عن كون حكومة كييف ربما تكون قد اخطات في حساباتها السياسية، وعن كون القوى العظمى في العالم لا تخدم الا مصالحها في حين تبقى المبادئ القانونية والأخلاقية مجرد كليشيهات للترويج وليس للتطبيق، وبغض النظر عن ان تجار الأزمات ينتعشون ويزدهرون وهم الرابح الاوحد في كل هذه الصراعات، فإن التاريخ يعيد نفسه ولا عزاء للضعفاء!!